تركت ازمة جائحة كوفيد 19 العديد من الاثار على كافة المجتمعات وكافة قطاعات المجتمع الصحية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وعن الاثار السلبية للجائحة على منظومتنا التعليمية والتربوية وفقا لدراسة اشرف عليها المجلس الاعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (عن التعليم في زمن كوفيد) بينت ان نسبة حضور التلاميذ في حصص “التعلم عن بعد” كانت ضعيفة جدا وفي الوسط القروي كان الحضوراقل بكثير بالمقارنة مع نسبة حضور زملائهم في المناطق الحضرية حيث افاد 61.8 في المائة من الاساتذة العاملين في المناطق القروية ان نسبة حضور التلاميذ كانت منخفضة جدا علما ان هذه النسبة لا تتجاوز 44.9 في المائة بين الاساتذة في المناطق الحضرية، وعبر 51 في المائة منهم ان هذا الغياب سببه عدم توفر او نقص في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ونقص حاد في الحواسب والالواح الرقمية كما كشفت نفس الدراسة ان ما يمثل 1.1مليونا من تلاميذ التعليم العمومي لم يتمكنوا من “التعلم عن بعد” خلال فترة الحجر الصحي وان خمس الاساتذة بالوسط القروي لم يمارسوا “التعليم عن بعد” وهو ما يحيل الى كون تلامذتهم لم يستفيدوا من اي نوع من التدريس خلال فترة الجائحة مما اثر سلبا على التحصيل الدراسي.
عصفت جائحة كوفيد 19 بمجتمعنا وتربيتنا وتعليمنا و ساهم توقف الدراسة خلال فترة الحجر الصحي وضعف استعداد نظامنا التعليمي على التأقلم مع نمط “التدريس عن بعد” في تفاقم التفاوتات وانعدام تكافؤ الفرص فيما يخص مستوى تحصيل التلاميذ سواء في البوادي او الحواضر و خصوصا في صفوف الاطفال المنتمين للفئات الفقيرة والمحرومة من كل الوسائل الحديثة للتواصل، و ما كان افظع ان عددا من الاسر في القرى والمناطق النائية لا تتوفر حتى على الكهرباء، وفي احزمة البؤس بالمدن فلا وجود لظروف مواتية للتعلم في البيت ولا تتوفر للكثير من الاسر خدمات الانترنيت او اجهزة الكترونية مواتية للولوج الى الانترنيت او حتى الامكانيات المادية لدفع مصاريف التعبئة او الانخراط في شبكات الانترنيت على الاقل لتوفير الحد الادنى لفلذات كبدها للتواصل او التعلم عن بعد.
رصدت منظمة هيومن رايتس ووتش التأثير السلبي لإغلاق المدارس نتيجة تفشي الجائحة على الاطفال المتعلمين بشكل غير متكافئ بما ان ليس لذى جميع المتعلمين الفرص والادوات او الامكانيات اللازمة لمواصلة التعلم اثناء الوباء مما ادى الى تفاقم الوضع التعلمي غير العادل لتفاقم التوزيع غير المتكافئ للدعم المقدم للتعليم.
فالتعليم “عن بعد” خلال فترة الجائحة بين ان الحكومات ليس لديها سياسة واضحة او موارد او بنى تحية لازمة لاعتماد “التعلم عن بعد” بطريقة تضمن تمكين جميع الاطفال من المشاركة فيه على قدم المساواة لذا دعت هذه المنظمة العالمية بضرورة تعزيز حماية الحق في التعلم عبر اعادة بناء انظمة تعليمية افضل واكثر انصافا وقوة.
لقد عصفت جائحة كورونا بمنظوماتنا التعليمية وقيمنا التربوية والاخلاقية كلها دون رحمة ومن هذه المؤسسات التي تعرضت للاهتزاز المدرسة والاسرة اللتين لم تكونا جاهزتين وغير مجهزتين لمواجهة الازمات التي خلفتها الجائحة.. فالجائحة قيدت حركة الابناء والتلاميذ داخل البيوت ونقلتهم من حيز مكاني وزمني منفتح لا حدود لفضائه وابعدتهم عن شبكة العلاقات الاتصالية المباشرة مع زملائهم وزميلاتهم وعن افراد عائلاتهم وكل مكونات المجتمع المدرسي بل حرمتهم الجائحة من الاحتفال ومن الفرح ومن حضور مناسبات العزاء والاسى مع اسرهم وكان لتأثير العزلة الاجتماعية والتربوية المفروضة على العلاقات العاطفية والعلاقات التربوية اثرا سلبيا على سلوك وشخصية هؤلاء الاطفال والمتعلمين، منها (عدم القدرة على الصبر- وجود حالة قوية من الاشتياق للعودة الى الحالة الاعتيادية..) فسببت الجائحة فيما يسمى “بامتصاص المعايير الاجتماعية ” التي اعتادوا عليها، فأطفالنا وابناؤنا اعتادوا ان يكونوا المرجع بالنسبة للآباء ويكونوا القدوة بالنسبة للمدرسين، ولم يعتادوا ان تفرض عليهم نمط حياة مفاجئة ومغايرة كليا لنمط الحياة الاعتيادية في اسرهم ومؤسساتهم وما حدث خلال الحجر الصحي انه سلب منهم الحميمية والعلاقات اليومية القريبة بينهم وبين الاهل والقرناء والمدرسين، فازعجهم الحجر الصحي والخوف الوبائي فشعروا بالاسى والخوف والهلع وظهرت في صفوفهم حالات الاكتئاب والعدوانية والفوبيا والادمان و كل السلوكات غير السوية …
هذه الحالات غير السوية ناجمة عن انتزاع الفرد من محيطه الاسري والاجتماعي ووضعه في “غرفة مظلمة” بما يعني اننا نعزله عن محيطه الاجتماعي وعلاقاته الاجتماعية وهما سبب رئيسي لعدد من الامراض النفسية التي ما يزال يعاني منها الكثير من اطفالنا وابنائنا المتعلمين ولم نقدر على توفير كامل الحماية النفسية والتربوية لهم.
وعلى الوزارة الوصية كما على جميع المؤسسات التربوية والصحية والشبابية والرياضية والثقافية قيادة مخطط استعجالي للتصدي لهذه الازمات المستجدة في نظامنا التعليمي وادارتها بهدف كفالة قدرة النظام التعليمي على مجابهة هذه الازمات والتحديات الراهنة للتغلب عليها وبناء حياة تربوية واجتماعية افضل مما سيكفل استدامة المبادرات الانسانية ومواءمتها مع الاولويات الوطنية وقدرتها على التخفيف من اثر الازمات على المتعلمين والاوساط التعلمية.
عاد التلاميذ الى مدارسهم ..لكنهم عادوا محملين بعقد ومركبات نفسية بعد عودة الدراسة الى نظامها الحضوري، وبعد ان فرضت الجائحة اساليب تعليم بديلة خلال سنتين متتاليتين، اشتكى المدرسون والمربون من حالة انفلات غير مسبوقة بين التلاميذ وضعف كبير في التحصيل العلمي بمختلف المستويات ومن بينها: انفلاتات داخل الصفوف– انحرافات في سلوك التلاميذ – الشغب والاتلاف والتكسير والتحطيم للممتلكات- الشعور بالخوف والقلق على المسار الدراسي – التصرفات العدوانية على قرنائهم واطرهم واساتذتهم – العنف اللفظي والجسدي حتى باتوا اكثر رفضا للانضباط مما يجعل العملية التربوية صعبة استنزفت ولا تزال تستنزف طاقات المربون اساتذة واداريين واولياء الامور.
هذه الصعوبات الانضباطية والسلوكية المستجدة التي تواجه المدرسين اليوم بعد عودة النظام الدراسي الى نسقه العادي خلفت مشاكل وصعوبات على مستوى التعلم لدى التلاميذ وضعف في التحصيل العلمي بسبب البرامج والمناهج التي لم يتم تكييفها مع ظروف ما بعد الجائحة وهو ما استنزف طاقات المدرسين والمدبرين التربويين.
– هل نتحدث عن سلوكيات غريبة تصدر من التلاميذ وبعضها يتجاوز الحدود مثل العنف اللفظي والجسدي المفرط داخل الفصول – والاستعمال المفرط للهواتف النقالة وتوظيفها في ما لا يفيد التحصيل والاستزادة بالمعارف- تهديد المدرسين والاداريين وتحويل الفضاءات التعليمية الى ارضية لتفريغ المكبوتات النفسية وغيرها الى جانب تعطيل الدروس واستصغار قيمتها… هذه السلوكيات كانت قائمة سابقا لكنها كانت محدودة تم تحولت في السنتين الاخيرتين الى سلوك سائد واسبابها متعددة ومنها الانقطاع عن الدروس من جراء الجائحة الوبائية .
– هل نتحدث عن المدرسين الذين يقضون اغلب الوقت المخصص للدروس في فض النزاعات وتهدئة التلاميذ او دعوتهم الى الانتباه، وكيف للمدرس ان يعالج الاضطراب في السلوك المعرفي عند المتعلم، ويعالج عدم القدرة على التركيز لديه، او يحد من الحركات الزائدة او النشاط الزائد او عدم الاتزان والاستقرار الانفعالي ..كيف له ان ينجح في مهامه التربوية والتعليمية في غياب خطط وبرامج تعليمية وطنية مراعية لظروف الازمات ومنها المخاطر الصحية التي تهدد المدرسين والمتعلمين وموظفي التعليم، وتهدد خطر الانقطاع عن الدراسة وما هي اساليب معالجة هذه المشكلات التربوية الجديدة سواء كانت بيداغوجية او تكوينية ودون ان ننسى ام تلك المشاكل وهي المشكلات النفسية المتزايدة بحدة في صفوف المتعلمين (الصراع النفسي الشعوري لذى التلاميذ – الشعور بالخيبة – الفوبيا – الاخفاق الدراسي – الاكتئاب – الادمان- العنف- ..)
ان على الوزارة الوصية ان تتحمل مسؤولياتها تجاه هذا القطاع الاستراتيجي والعمل على فض الاشكاليات والمشكلات المستحدثة وفتح باب التفاوض الجدي مع المدرسين من اجل الاستجابة لمطالبهم وضمان مناخ تربوي ملائم للتلاميذ.
لقد عاد التلاميذ الى الفصول الدراسية لكنهم لم يعودا كما كانوا قبل الحجر الصحي، عادوا دون ان يستعيدوا العناصر الاساسية للتعلم، عادوا وفقدوا الكثير من المهارات التعليمية والتعلمية، عادوا وهم يحملون معهم مشاكلهم الاسرية وعقدهم النفسية مما اوجد ارضية خصبة لنمو وانتشار كثير من السلوكات التمردية وزيادة معدلات الانحراف والعنف مما دفع بعضهم للجوء الى التخريب والاتلاف داخل المؤسسات التي يشعرون بكرهها وضعف الانتماء اليها فانتشرت بقوة الكثير من الممارسات التخريبية والمشكلات السلوكية واهمها : التشابك والتشاجر وسط الفضاءات التعليمية – التراشق بالأدوات المدرسية وغيرها – تمزيق الكتب والوثائق التعليمية – الكتابة والحفر على جدران الفصول الدراسية – الغش في الامتحانات والفروض – تزايد وتيرة التاخرات والتغيبات – نزع اللوحات والاعلانات المدرسية – …كل هذه السلوكات الشاده كانت تعشعش سابقا في مؤسساتنا التعليمية لكن في السنتين الاخيرتين تزايدت حدتها بشكل كبير لا يمكن معالجتها او الحد منها بأنشطة محدودة من فقرات الحياة المدرسية كما تتصور الوزارة الوصية ذلك او بواسطة مجالس الانصات والنوادي التربوية…ان الظاهرة اكبر من ان تحارب بأنشطة صفية او مندمجة موازية ومحدودة.
ان الظاهرة الجديدة هي انذار مبكر بان شعور التلاميذ بالغربة داخل مؤسساتهم التعليمية تكون لها نتائج مدمرة تقود الى عنف شامل تجاوزت اسوار المدرسة الى الملاعب الرياضية والى الاحياء السكنية والشوارع والازقة.. مما يهدد الامن الاجتماعي كله وهو ما يتطلب تأسيس اهداف واجراءات ومعايير جديدة بديلة عن تلك القائمة في مجتمعاتنا المدرسية تكون اكثر ملاءمة للواقع الجديد واكثر اخلاقية لكبح كل شعور بالإحباط والسخط والتشاؤم والرفض.
اننا – وباستعجال – في حاجة ماسة لبرامج التعليم العلاجي للتعويض عن فرص التعلم الضائعة في فترة الحجر الصحي حتى يستوعب المتعلم ما ضاع من مهارات القراءة والكتابة والحساب وكفايات الفهم والتحليل والتركيب،،، التي لم تتحقق بالمستوى الكافي عبر تقنيات “التعلم عن بعد”. وما لم يتم تعويض ما فات فالخسائر ستكون افدح والتسرب ستتزايد نسبه بشكل مخيف، ان التعويض لا يمكن معالجته –فقط- بحصص الدعم وانشطة الحياة المدرسية وانما ببرنامج تعليمي تعويضي علاجي يتم فيه استثمار كل الامكانيات وتعبئة كل الفاعلين التربويين والاجتماعيين وشركاء المؤسسات التعليمية يكونون قادرين على الجمع بين التعليم داخل الفصول الدراسية و”التعليم عن بعد” مع التجديد في البرامج والمناهج والتكوينات… وان اي جديد في هذا النظام التربوي العلاجي عليه ان يتكيف مع احتياجات التلاميذ الاساسية ومع صحتهم العقلية والنفسية.