استفاقت تزنيت على مأساةٍ في حيّ العين الزرقاء بعدما تحوّلت مناوشةٌ إلى جريمةٍ دامية، غير أنّ الواقعة، على قسوتها، ليست حدثًا معزولًا بقدر ما هي مرآةٌ لواقعٍ صار ينهش سكينة المدينة ليلًا… تجمعاتٌ لقاصرين وشباب في أزقةٍ متعددة، ضجيجٌ وكلامٌ نابٍ يمتدّ إلى ما بعد صلاة الفجر، وشعورٌ عامّ لدى السكان بأن لا أحد يسمع شكواهم ولا يردّ الاعتبار لحقهم البسيط في النوم والطمأنينة.
في قلب هذا المشهد تتجاور أعطابٌ متراكبة… دورياتٌ أمنية تقلّ في الساعات المتأخرة فتفسح المجال لتمادي الفوضى، وسلطاتٌ إدارية تسمح لبعض المحلات بأن تبقى مفتوحةً إلى ساعاتٍ جدّ متقدمة من الصباح من دون موازنةٍ حقيقية بين حرية النشاط الاقتصادي وحقّ الجوار في السكينة، وفراغٌ اجتماعيّ وتربويّ يترك الشارع الخيار الوحيد لشبابٍ يبحث عن متنفسٍ فلا يجد إلا التسكّع وما يجرّه من احتكاكات.
لا يتعلق الأمر بجيْلٍ “سيئ” بقدر ما يتعلق بمدنٍ تغلق أبوابها في وجوهه ثم تُحَمِّله نتائج الفراغ؛ فحين تغيب ملاعب القرب المضاءة، وتتراجع أنشطة دور الشباب، وتُطفأ مسارح الشارع والمكتبات الليلية، يصبح الرصيف منصةً مفتوحةً لكل شيء إلا الهدوء. عندها تتحوّل الشكايات إلى همسٍ يُؤوَّل صمتًا أو تهاونًا، ويستقوي بعض المتجمهرين بعباراتٍ فظة من قبيل: “سر شكي… عارف طريق ولا نورها ليك”، بما تحمله من تهديدٍ مبطّنٍ وإمعانٍ في إهانة المتضرّرين.
لا بد من الاعتراف بأن التساهل مع هذه السلوكيات، وإهمال شكايات السكان، فتحا الباب أمام ظاهرةٍ تتمدّد من جيوبٍ محدودة إلى أحياء كثيرة، وبأن إدارة الليل لا يمكن أن تُترَك لعشوائية السوق وحدها؛ فكما تُنظَّم حركة النهار بمقتضياتٍ واضحة، تُنظَّم حركة الليل كذلك بمواقيت إغلاقٍ مضبوطة، وعزلٍ صوتيّ إجباريّ للمحلات الحسّاسة، وحراسةٍ خصوصيةٍ محيطةٍ بها، وتدخّلاتٍ ذكيةٍ تحرّر الملك العام من مكبّرات الصوت والدراجات المزعجة والتجمهر المخلّ. إن الحزم المطلوب هنا ليس عقابًا جماعيًا للشباب، بل ميزانُ عدلٍ يعيد تعريف الحرية على أنها تتوقف عند حدود راحة الجار.
الحلّ متاحٌ وممكنٌ إذا توافرت الإرادة… دورياتٌ ليلية مرئية ومنتظمة في البؤر الساخنة تُقيم الدليل على حضور الدولة وقابليتها للقياس، قناة تواصلٍ آمنة عبر رقم هاتفيّ أو تطبيق مراسلة تُشجّع التبليغ بسرّية وتحمي المبلّغين من أي انتقام، مراجعةٌ محلية لدفتر تحملات المحلات الليلية بما يضمن العزل الصوتي والنظافة ومحيطًا آمنًا، وفتحُ بدائل حقيقية لشغل الوقت… ملاعب قرب مضاءة، أندية أحياء، ورشات فنّ ومطالعة ومسابقاتٍ ليلية صيفًا بإشراف مربّي شوارع ووسطاء أحياء. على المدى المتوسط، لا غنى عن شباكٍ موحّدٍ بين الشرطة الإدارية والسلطات الأمنية والوقاية المدنية لرسم خريطةٍ حيّة للنقاط السوداء بحسب الزمان والمكان، واتخاذ القرارات بناءً على معطياتٍ لا انطباعات.
المسؤولية هنا مشتركة لا تقبل التنصّل… على الأجهزة الأمنية أن تُظهر حزمًا عادلًا يعالج السلوك لا الفئات، وعلى الجماعة أن تُفعّل شرطتها الإدارية بصرامةٍ من دون انتقائية، وعلى السلطات المحلية أن توازن بحكمة بين دوران العجلة الاقتصادية وحقّ السكان في السكينة، وعلى الأسرة والمجتمع المدني أن يملآ فراغ الليل ببدائل جذّابة تستعيد ثقة الشباب في فضاءاتٍ آمنة محترمة.
إنّ مأساة العين الزرقاء ينبغي أن تكون نقطة تحوّل لا محطةً أخرى في رزنامة الأسى؛ فإمّا أن نجعلها بداية لتصحيحٍ منهجيّ يعيد للمدينة ليلها الهادئ، وإمّا أن نستسلم لدورةٍ قاتلة من الصمت والتأجيل حتى نفاجأ بفجرٍ جديد يحمل خبرًا أشدّ قسوة.
السكينة ليست ترفًا يُطلب عند الحاجة، بل حقٌّ أصيلٌ من حقوق السكن؛ وإذا لم تُدَر ليالي المدن بسياسةٍ واضحة ومسؤولة تُرى وتُحَسّ وتُقاس، سنظلّ نكتب بعد كل مأساة نصًّا يشبه هذا، ونؤجّل الإصلاح إلى ما بعد الجنازات. المطلوب الآن خطواتٌ ملموسة لا بيانات… حضورٌ يردع، وتنظيمٌ يحمي، وبدائلُ تجذب، وتعاونٌ يداوي الجرح قبل أن يتحوّل إلى عادة.