رجل السياسة لا يقول الحقيقة لأن الحقيقة نسبية.. رجل السياسة ليس طبيبا يقول للمريض حقيقة مرضه بناء على كشف دقيق وتحاليل علمية.. رجل السياسة لا يملك تشخيصا دقيقا للواقع، ولا تصورا واضحا عن المستقبل، لهذا كل ما يجب أن يدعيه رجل السياسة هو الصدق مع الجمهور، وجعل طريق مجده يمر عبر خدمة الناس، والزهد في امتيازات المنصب والإنصات إلى نبض المجتمع.
في المجتمعات التقليدية، كان رجل السياسة سيد حرب، ثم تحول إلى كاهن، ثم أصبح ملكا، ثم هو الآن منتخب. كان رجل السياسة مقاتلا، ثم صار مبشرا، ثم تحول إلى ملك، الآن هو منتخب، وظيفته إدارة السلطة والثروة لفائدة المجتمع، وحماية نظام القيم والمساواة والقانون وحقوق الإنسان، وحق كل مواطن في الأكل والشرب والنوم والشغل والسفر والتعليم والعيش في سلام.
هذا هو رجل السياسة اليوم، وظيفته إدارة المخاطر المحيطة بالمجتمع، والتقليل منها إلى الحدود الدنيا، وهنا يتنافس المتنافسون أمام صناديق الاقتراع التي لا تعطي أحدا شيكا على بياض.
الذي يتطلع اليوم إلى خطابات جل السياسيين عندنا في المغرب لا يجد إلا القليل من الحلول للمشاكل التي تكبل قدم الأمة. لا يجد سوى شعبويات كثيرة وعقلانية قليلة. زعماء يتكلمون كثيرا ويفكرون قليلا، يعدون بما لا يستطيعون أن يوفوا به، يخطبون ويصرخون ويتآمرون ويتنابزون بالألقاب، ويتقربون من العرش، ويعرضون خدماتهم على السلطة، ويبحثون عن المال والأعيان والطرق الالتفافية إلى السلطة. هناك استثناءات قليلة تؤكد القاعدة ولا تنفيها… جل هؤلاء لا يقدمون عرضا سياسيا جديدا، أو برنامجا طموحا، أو أفكارا مبتكرة لحل مشاكل الإنسان فوق هذه الأرض.. جلهم تحول إلى جزء من المشكلة وليس عنصرا في الحل.
الأغلبية مكبلة بإكراهات تقديم الولاء، وإبداء حسن السيرة والسلوك، ومراعاة التوازن في لعبة سياسية محروسة بعناية، والسير على البيض حتى لا يتكسر لأن صحة البلد الديمقراطية لا تتحمل طاقما وزاريا جله يدير الأزمة ولا يحلها، ويستهلك وقتا طويلا للقيام بمبادرات صغيرة، أما المعارضة فهي غارقة في أزمة المصداقية، وهي لا تقدم للشعب بديلا، بل تقدم للنظام خيارا آخر لعودة السلطوية في ثوب جديد. المعارضة تعارض الحكومة وتوالي الحكم، تزرع الألغام في صندوق الاقتراع المقبل حتى لا تكبر رجل الناخب على الحذاء الخشبي المصنوع منذ قرون.
أما الشعب فنصفه لا يشارك في الانتخابات غضبا على حالها أو لامبالاة بها، والنصف الآخر يوزع أصواته بوعي تارة، وبجهل أخرى.. بالرجاء أحيانا وبالخوف أحيانا أخرى، أما النخبة فإنها لا تحمل من هذا الاسم إلا أحرفه.. نخبة معطوبة كبرت في وسط الفساد والاستبداد، إلا من رحم ربك، وصارت مع المدة تحمي البيئة التي ولدت فيها، والتي لا تعرف غيرها، ولا تتصور العيش في ماء نقي.. صارت الطحالب جزءا من جيناتها الوراثية، وشعارها، كما قال مجذوب العدالة والتنمية عبد العزيز أفتاتي: «استفاد يستفيد سيستفيد».
النخبة مقسمة إلى ثلاث دوائر في بلادنا؛ التقنوقراط يميلون تلقائيا إلى المخزن، يبيعون الخبرة والولاء للإدارة مقابل الأجر والامتيازات وقانون اللاعقاب. ثاني الدوائر يجلس فيها المناضلون الذين يتوجهون إلى الأحزاب اليسارية أو الإسلامية، ويعوضون ضعف الخبرة بكثرة الحركة، وضعف التكوين بالتملق للجماهير. أما الدائرة الثالثة من النخب فمخصصة للأعيان الذين يتكدسون في أحزاب الإدارة، ويبيعون خزان الأصوات الذي تحت أيديهم للدولة تارة، وللأحزاب الحقيقية تارة أخرى.
النخب التي لا تدخل إلى هذه القوالب الثلاثة إما تهمش أو تهاجر أو تحارب… ولهذا، السياسة في بلادنا تطحن الماء جل الوقت، ولا تنتج حلولا حقيقية للمشاكل، ومع ذلك مازال الأمل يراود الشعب في غد أفضل.. كل يوم يذهب الأطفال إلى المدرسة، والطلاب إلى الجامعة، والعمال إلى المعمل، والموظفون إلى الإدارة، وأصحاب المهن الحرة إلى مكاتبهم وشركاتهم ومقاولاتهم، فيما يهاجر اليائسون إلى بلاد داعش أو إلى ما وراء البحار بحثا عن حلول فردية لمشاكل جماعية.. بحثا عن حلول بسيطة لمشاكل معقدة.
السياسيون، مثل بعض النساء، لا يسمعون إلا ما يعجبهم، لهذا لا بأس إن كدرنا راحتهم بين الفينة والأخرى.
توفيق بوعشرين
التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.