قد يستغرب القارئ الكريم هذا العنوان الذي يربط ما يقع في تونس بمرحلة سياسية عرفها المغرب عنوانها “سنوات الرصاص”. والمقصود ليس ما شهده المغرب خلال هذه المرحلة من تاريخه السياسي التي انتهت بقرار تاريخي لإرساء المصالحة الوطنية، ولكن القصد هو أن ما يقع حاليا في تونس هو بشكل ما إعادة لتجربة مريرة مرَّ منها المغرب وقعت في سبعينيات القرن الماضي. حين نعرض حقيقة ما وقع في فترة سنوات الرصاص في المغرب، سنعرف بشكل ملموس أن تونس تمر بنفس التجربة وستُفَوِّت على شعبها فرصا لتحقيق التنمية المنشودة والطفرة الاقتصادية المفقودة، وستفرض عليها سُنن التاريخ إقامة مصالحة وطنية بعد ضياع مصالح الشعب ووقت الوطن.
بعد استقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي، عرفت البلاد صراعا كبيرا حول السلطة ونمط الحكم. وكان الصراع بشكل عام بين المؤسسة الملكية التي تريد إرساء نظام ملكي قائم على أساس التعددية الحزبية، وبين أحزاب يسارية تريد نظاما جمهوريا بخلفية الحزب الواحد كما كان سائدا في تلك الفترة وفق الأيديولوجية الماركسية التي كانت منتشرة في العالم. اشتد الصراع بين التوجهين ودخلت البلاد في صراع سياسي غاب فيه البناء الإقتصادي والمشروع التنموي. كان اهتمام النخب السياسية منصبا حول كل ما هو سياسي، ونتج عنه غزارة كبيرة في الأفكار والمقترحات حول الدستور والقوانين والأحزاب وغيرها من المواضيع السياسية، لكن في المقابل غاب بشكل تام النقاش الاقتصادي والتنموي وكيفية الاستفادة من الفرص التنموية المتاحة آنذاك. كانت النخب السياسية بارعة براعة كبرى في الخطاب السياسي وما التصق بها من نقاشات دستورية، لكنها لم تكن تملك رؤية مستقبلية للتنمية والتطور الاقتصادي في البلد.
كانت النتيجة أن عرفت البلاد صراعا سياسيا حادا لم يُفضي إلا إلى تعميق جراح المتصارعين ونال الوطن النصيب الأكبر منها. فلا النظام استطاع القضاء على المعارضة ولا المعارضة استطاعت إضعاف المؤسسة الملكية. صراع سياسي مرير خلَّف الكثير من الجراح ومن الضحايا، لكن الضحية الكبرى كان هو الوطن الذي فاتته فرصا كبيرة ليصير وطنا ناميا، متقدما وقادرا على تحقيق العيش الكريم لأبنائه. اشتد الصراع وتدهور الإقتصاد ودخلت البلاد في برنامج التقويم الهيكلي نتج عنه تجميد الأجور وإلغاء التشغيل وتردي خدمات قطاعات استراتيجية خاصة التعليم والصحة. ولإنقاذ الوضع أقرت الدولة مشروع المصالحة الوطنية التي مكنت البلاد من دخول عهد جديد وخلق أفضل واقع ممكن بعد تحقيق التوافق والإجماع السياسي، وهو ما مكن البلاد من تحقيق شروط أفضل لتشجيع الاستثمار وبناء الاقتصاد وتحقيق الطفرة التنموية. يحدث هذا بعد أن فوتت البلاد فرصا سانحة للتقدم استفادت منها بلدان كانت أكثر فقرا من المغرب، لكنها تعاملت مع تلك الفرص بشكل ذكي واستفادت منها. على رأس تلك البلدان سينغافورة وماليزيا والبرازيل والصين والهند ورواندا.
تونس قيس سعيد، تمر بنفس المرحلة التي عرفها المغرب خلال سبعينيات القرن الماضي وبنفس الخاصيات حيث تُبدع الأحزاب ويُبدع الرئيس في الخطابات السياسية والنقاشات الدستورية، ولا أحد يمتلك الرؤية والقدرة على تحقيق ما يحتاجه الوطن التونسي من اقتصاد قوي ومسار تنموي ناجح. تضخُّم في الخطاب السياسي وغياب تام للمشاريع التنموية والقدرة على جلب الاستثمارات. أمضت الأحزاب عقدا من الزمان بعد ثورة الياسمين في صراعات سياسية عقيمة بالكاد أنتجت دستورا توافق عليه الجميع. لكن حتى مهد ثورة الياسمين، سيدي بوزيد التي عرفت حادثة البوعزيزي، لم تعرف أي تنمية وأي استثمار يحقق العيش الكريم للساكنة، فما بالك باقتصاد وتنمية البلاد. وها هو الرئيس التونسي يريد أن يبدأ من جديد في إذكاء الصراعات السياسية العقيمة وإعادت صياغة الدستور من جديد تحت مسميات براقة على غرار شعار الجمهورية الثالثة. لكن على مستوى المشاريع الاقتصادية والتنموية التي تنتظرها البلاد والعباد فالفقر التام والعجز المطلق. هذا العجز عن تحقيق أهداف الثورة جعل الرئيس قيس سعيد يعمل على تهريب النقاش نحو إعادة صياغة الدستور وكأننا أمام واقع يجعل كل من تسلم السلطة يضع دستورا خاصا به.
تونس تعيش مرحلة الفرص الاستثمارية الضائعة التي عاشها المغرب في سنوات الرصاص. تعيش كذلك الصراع حول كل شيء إلا الرؤية الحكيمة لبناء اقتصاد قوي ومشاريع تنموية ناجحة. سيستمر الصراع بين الفرقاء السياسيين أبناء الوطن الواحد، وسيصف كل فريق غريمه السياسي بجميع الأوصاف كالخيانة والعمالة وخدمة المصالح الشخصية على حساب الوطن. لكن الضائع في الأخير هو هذا الوطن الذي يتحث عنه الجميع. ستمر السنين لتستفيق تونس وتجد دولا تحَلَّت بالذكاء السياسي وغلَّبت لغة الاقتصاد والتوافق على لغة السياسة والصراع، وتنازل الفرقاء السياسيون بعضهم لبعض من أجل جلب الاستثمار ورؤوس الأموال لتحقيق الطفرة التنموية. ستستفيق تونس يوما ما، كما استفاق المغرب في بداية الألفية الثالثة، لتجد دولا أفقر منها حققت طفرتها التنموية وفاقتها بسنوات ضوئية. نذكر على سبيل المثال الفيتنام وإثيوبيا على غرار سينغافورة وماليزيا في التجربة المغربية.
فهل يستفيد الفرقاء التونسيون من دروس التاريخ، أم أن تونس قدرها أن تمُرَّ، كما المغرب، من مرحلة التقويم الهيكلي وهي التي تبحث الآن عن قروض البنك والصندوق الدولي بأي ثمن لأن الأزمة لا مخرج آخر لها. حينها ستكتشف النخب السياسية في تونس أنهم فقدوا كل ما بنوه في التعليم والصحة. وسيتعلمون، بعد إهدار الزمن التنموي وفرص تقدم البلاد، أن لا خيار لهم سوى الجلوس حول طاولة التفاهم ومائدة التوافق، لخلق الاسقرار الذي يحتاجه الاستثمار، والابداع في الحلول الاقتصادية والمشاريع التنموية. وسيعلمون أن تلك الصراعات السياسية والتعديلات الدستورية وفق هوى كل طائفة سياسية، إنما كانت هدرا لزمان الوطن وخيانة لحق العباد في العيش الكريم، وتلك هي الخيانة الحقيقية.
فلماذا لا يستفيق الفرقاء التونسيون الآن بدل انتظار الدورة الخلدونية على مقاس تونس الزيتونة: صراع عقيم بلا أفق في الحل ثم أزمة وتقويم هيكلي يؤدي فيه الوطن الثمن الباهض، فمصالحة وطنية من أجل إرساء شروط التنمية والتقدم. أين هو ذكاء النخبة السياسية في تونس الخضراء؟
سعيد الغماز
التعاليق (0)
التعاليق مغلقة.