مقال قانوني من إعداد : الأستاذة نسرين لعسيلي
محامية متمرنة بهيئة أكادير ، كلميم و العيون . حاصلة على ماستر في القانون الدولي المقارن الفضاء الإفريقي الفرنكوفوني والكومنويلث .
مقدمــــة
يُعدّ موضوع العقوبات البديلة من أبرز التحولات التي تشهدها السياسة الجنائية المعاصرة في المغرب، في ظلّ التوجه نحو تحقيق عدالة إصلاحية تُوازن بين حق المجتمع في الأمن، وحق الفرد في الكرامة والحرية. فبعد عقود من الاعتماد المفرط على العقوبات السالبة للحرية، وما نتج عنها من اكتظاظ في السجون وصعوبات في إعادة الإدماج، أصبح لزاماً على المنظومة القضائية أن تتبنّى نموذجاً جديداً يقوم على إصلاح السلوك بدل الاقتصار على الزجر. وفي خضمّ هذا التحول، يبرز دور المحامي كفاعل أساسي في تفعيل فلسفة العقوبات البديلة، باعتباره ضمير العدالة والمدافع عن حقوق الإنسان أمام القضاء.
- أولاً: الإطار القانوني المغربي للعقوبات البديلة
انطلقت المراحل الأولى للعقوبات البديلة في المغرب مع النقاش العمومي حول إصلاح المنظومة الجنائية، خاصة في مشروع تعديل القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية.
وقد نص المشروع على مجموعة من التدابير الجديدة، من أبرزها العمل للنفع العام كبديل عن العقوبة الحبسية القصيرة، والغرامة اليومية، والمراقبة الإلكترونية، وتقييد بعض الحقوق أو الالتزامات مثل المنع من السياقة أو ممارسة مهنة معينة. وتهدف هذه الآليات إلى تجنب السجن في الحالات التي لا يشكّل فيها المتهم خطراً حقيقياً على النظام العام، مع الإبقاء على الردع وتحقيق الإصلاح عبر الإدماج الاجتماعي.
فمشروع القانون الجنائي المغربي كرس العقوبات البديلة في باب مستقل، محدداً صورها وشروطها على النحو الآتي:
- العمل لأجل المنفعة العامة: يتراوح بين 40 و600 ساعة حسب خطورة الفعل، ويُؤدى في مؤسسات أو هيئات عمومية أو جمعيات ذات منفعة عامة .
- الغرامة اليومية: إلزام المحكوم عليه بأداء مبلغ مالي يحدده القاضي، عن كل يوم من العقوبة السجنية المحكوم بها، على ألا يتجاوز مجموعها المبلغ الأقصى للغرامة المقررة قانوناً للجريمة.
- المراقبة الإلكترونية: إخضاع المحكوم عليه لرقابة عن طريق السوار الإلكتروني، بما يسمح بتقييد حركته داخل مجال جغرافي محدد .
كما تنحصر إمكانية تطبيق هذه العقوبات في الجنح المعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل، مع إمكانية رفضها إذا تعارضت مع اعتبارات خطورة الجريمة أو شخصية الجاني.
و رغم أهمية إدراج هذه المقتضيات، فإن تنزيلها يواجه عدة صعوبات عملية، منها:
- غياب البنية التحتية: المؤسسات القادرة على استقبال المحكوم عليهم بالعمل لأجل المنفعة العامة لا تزال محدودة.
- تأهيل الموارد البشرية: الحاجة إلى قضاة تنفيذ العقوبات، وأطر اجتماعية ومراقبين متخصصين لتتبع التنفيذ.
- التقبّل الاجتماعي: ما يزال جزء من الرأي العام ينظر إلى هذه العقوبات باعتبارها “تساهلاً” مع المجرمين، مما يقتضي حملات تحسيسية وتوعوية.
- التطبيق القضائي: تباين محتمل في الاجتهادات حول حالات تطبيق العقوبات البديلة قد يضر بمبدأ المساواة أمام القانون.
- ثانياً: دور المحامي في مراحل الدعوى عند تطبيق العقوبات البديلة
- في مرحلة البحث والمتابعة يُعتبر المحامي أول من يتواصل مع المتهم بعد إلقاء القبض عليه، ومن ثمّ عليه أن يشرح لموكله طبيعة العقوبات البديلة، ويهيئه نفسياً لتقبّلها. كما يساهم في إقناع النيابة العامة بملاءمة هذا النوع من العقوبات مع وضعية المتهم، خصوصاً في الجرائم البسيطة أو تلك التي لا تتطلب الحبس الفعلي.
- في مرحلة المحاكمة يبرز الدور المهني للمحامي في الدفاع عن اعتماد العقوبة البديلة أمام المحكمة، عبر الترافع القانوني المؤسس على مبادئ تفريد العقوبة، والتناسب بين الفعل والعقاب. فالمحامي هو من يقدّم للمحكمة معطيات اجتماعية وشخصية تبرز أهلية المتهم للاستفادة من عقوبة بديلة، كعمله، التزامه الأسري، أو وضعيته الصحية، مما يوجّه القاضي نحو تكييف العقوبة بما يحقق العدالة والإنصاف.
- في مرحلة التنفيذ والمواكبة بعد صدور الحكم، لا يتوقف دور المحامي، بل يستمر في تتبع تنفيذ العقوبة البديلة، لضمان احترام حقوق موكله أثناء التنفيذ، والتأكد من أن هذه العقوبة تحقق الغرض الإصلاحي دون المساس بكرامته أو حرياته الأساسية. كما يمكن للمحامي أن يلعب دور الوسيط بين المحكوم عليه والمؤسسات المنفذة للعقوبات البديلة، لتفادي أي تعسف أو سوء تطبيق.
- ثالثاً: دور المحامي كشريك في إنجاح السياسة الجنائية الحديثة .
إن المحامي ليس مجرد فاعل داخل قاعة المحكمة، بل هو أيضاً شريك في صياغة وتنزيل السياسة الجنائية. فمن خلال الهيئات المهنية للمحامين والجمعيات الحقوقية، يشارك الدفاع في النقاش العمومي حول القوانين الجديدة، ويقترح تعديلات تضمن التوازن بين الردع والحقوق الفردية. كما يلعب المحامي دوراً توعوياً داخل المجتمع، عبر الندوات والمقالات القانونية، لتكريس ثقافة العقوبة الإصلاحية وتحفيز الثقة في العدالة.
- رابعاً: التحديات العملية أمام المحامي في تفعيل العقوبات البديلة
رغم أهمية هذا النظام، يواجه المحامي عدة تحديات، من بينها غياب نصوص تنظيمية دقيقة تحدد كيفية تنفيذ بعض العقوبات البديلة، نقص التكوين المهني في هذا المجال الجديد نسبياً، وضعف التنسيق المؤسساتي بين القضاء، ومؤسسات المجتمع المدني، ومصالح المراقبة. ولذلك فإن المحامي مدعو إلى تطوير أدواته المعرفية والعملية للتعامل مع هذا النظام، والمطالبة بوضع إطار قانوني واضح يحدد حقوق وواجبات جميع الأطراف المعنية بالتنفيذ.
خاتمــــة
إن العقوبات البديلة ليست مجرد تعديل قانوني، بل هي تحول فلسفي في العدالة الجنائية المغربية نحو نموذج إصلاحي يضع الإنسان في صميم العملية العقابية. ويظلّ المحامي حجر الزاوية في إنجاح هذا التحول، بصفته حامياً للحقوق وضامناً للتوازن بين سلطة الدولة وكرامة الفرد. إن تعزيز دوره في هذا المجال لن يسهم فقط في تخفيف الاكتظاظ داخل السجون، بل في بناء عدالة جنائية إنسانية فعّالة، تُجسّد مقولة: (العقوبة وسيلة للإصلاح قبل أن تكون أداة للزجر).
