حنان رحاب
نعم، لم نكن في النقابة الوطنية للصحافة المغربية جزء من المشكل الذي صنع وضع الأزمة داخل قطاع الصحافة والنشر، بل كنا دائما ميسرين للحلول وصانعين، ومدافعين عن تنزيلها، رغم كل أشكال الترهيب المادي والمعنوي، ورغم حملات التضليل والتبخيس والتشكيك.
ولكن، ما مناسبة هذا التذكير الذي لا بد منه، من باب المسؤولية، ومن باب الوفاء للصحافيات والصحافيين الذين حملونا أمانة تمثيلهم؟
إن المناسبة التي يقال أنها شرط، هي عديد التصريحات والخرجات بمناسبة النقاش الحالي حول مشروع القانوني المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، والتي كان مدارها هو تشخيص وضع الأزمة الحالي.
هذه التصريحات والكتابات التي حملت النقابة الوطنية للصحافة المغربية مسؤولية الوضع الذي نعيشه اليوم داخل المهنة، مع العلم أن النقابة هي التي كانت في طليعة الهيآت التي أطلقت جرس الإنذار مبكرا، وحذرت من الاختلالات التي تسيئ للمهنة منذ بواكيرها الأولى، قبل أن يحاول كل واحد التبرؤ منها، وتحميل الآخر وزرها.
لقد نبهت النقابة الوطنية للصحافة المغربية منذ سنوات إلى الانتهاكات التي تطال الأعراف المؤسسة لأخلاقيات المهنة، كما لضعف التكوين الأساسي والمستمر مع التحاق أعداد غير مسبوقة من الزميلات والزملاء الجدد للمهنة في مدة زمنية قصيرة، دون أن يكون القطاع مؤهلا لاستيعابهم تكوينا ومهننة، ونبهت للتحديات التي تطرحها المنافسة من قبل شبكات التواصل الاجتماعي، ولانعكاس كل ذلك على مستقبل المقاولات الصحافية، وبالخصوص تلك التي ما زالت تخوض رهان المحافظة على استمرارية الصحافة المكتوبة الورقية.
ودفعت النقابة الوطنية للصحافة المغربية ضريبة دفاعها عن ضرورة تحديث الإعلام العمومي، ليقوم بأدواره المطلوبة في الدفاع عن المصالح الوطنية العليا، ومجابهة المنصات الإعلامية الخارجية، وخاصة تلك المناوئة لمصالح المغرب، وحقه المشروع في السيادة على كامل ترابه.
إن التذكير بهذه العينة من القضايا التي حذرت من خطورتها النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في الوقت الذي كان الآخرون يهونون منها، بل إن البعض ممن يشتكي اليوم من الوضع غير المرضي للقطاع، كانوا يعتبرون هذه الممارسات الشاذة وغير المقبولة تدخل في نطاق التعددية والمواكبة للتقدم التكنولوجي والرقمي. هو (أي التذكير) فقط لبيان أن النقابة الوطنية للصحافة المغربية ظلت دوما مواكبة سواء للمستجدات التي طرأت على القطاع، او للتحولات السياسية والمجتمعية ببلادنا، مما يقتضي منها تطوير آليات اشتغالها، وتحديد أولوياتها على حسب تحديات المرحلة.
وهذا بخلاف ما يروجه المنتقصون من عمل أطر النقابة الوطنية للصحافة المغربية، والذين يلمزون إلى علاقتها بأحزاب بعينها، مثيرين فزاعة السياسي/ الحزبي الذي ينبغي إقصاؤه من المساهمة في تطوير المشهد الإعلامي، الذي كما هو قضية إعلامية، فهو كذلك مطلب حقوقي، وتطلع نقابي، ورهان سياسي.
وحتى المشهد السياسي الحزبي ببلادنا تطور، في اتجاهات أخرى، مختلفة عن زمن تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بمساهمة كبيرة لا ينكرها إلا جاحد للأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية.
فنحن لا نتنكر لتاريخنا، الذي نتشبت به ونعتز به.
نعتز بالأدوار التي لعبتها النقابة الوطنية للصحافة المغربية في زمن الجمر والرصاص دفاعا عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، مما جعلها مساندة للتيارات التقدمية التي كانت تدافع عن هذه القيم، كما نعتز بالدعم الذي كانت تجده النقابة الوطنية للصحافة المغربية من طرف هذه الأحزاب، التي رافعت عن حقوق الصحافيات والصحافيين، وعن حرية الرأي والتعبير، سواء في البرلمان، اوفي مفاوضاتها، أو في أنشطتها.
وثمرة ذلك، كانت هي دخول بلادنا نادي الدول السائرة نحو انتقال ديموقراطي هادئ ومتوافق عليه، رغم كثير هزات، كانت تشوش على هذا الانتقال.
وكان عاديا أن تكون قيادة النقابة في تلك المرحلة، تعرف حضورا كبيرا للمنتمين للأحزاب الديموقراطية التقدمية، والوطنية، وخاصة أن أغلب الصحافيين في ذلك الوقت كانوا منتمين لأحزاب سياسية، أو عاملين بالصحافة الحزبية التي كانت تقتسم مع الإعلام العمومي المشهد، قبل تطور الصحافة الخاصة.
وهذا التكامل والإنصات المتبادل ودعم الأحزاب الديموقراطية والتقدمية هو الذي سيكون سببا في الحصول على مجموعة من المكتسبات الفارقة: إلغاء الرقابة القبلية، الدعم العمومي، الوصول لمدونة نشر خالية من العقوبات الحبسية في قضايا الصحافة والنشر.
بل يمكن المجازفة بالقول إن الوصول إلى التنظيم الذاتي للمهنة، عبر آلية المجلس الوطني للصحافة، تم التأسيس له خلال تلك المرحلة، إذ إن النقابة الوطنية للصحافة المغربية هي الوحيدة التي كانت تطرح مطلب التنظيم الذاتي للمهنة، كما كانت الوحيدة سابقا التي تدعو لإقرار ميثاق ملزم لأخلاقيات المهنة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن الصحافة الحزبية بدورها كانت هي المدرسة الأساس لتكوين الصحافيين والصحافيات، بدليل أن التجارب الإعلامية الخاصة التي بدأت بالظهور بقوة منذ منتصف التسعينيات، تزامنا مع مرحلة التمهيد للتناوب التوافقي، كلها انطلقت بصحافيين وصحافيات قادمين في أغلبهم من مدارس الصحافة الحزبية، وخاصة: الاتحاد الاشتراكي/العلم/ البيان/ أنوال/ لوبينيون/ ليبيراسيون/ الميثاق..
لقد بدأت العلاقة تاخد منحى آخر بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية والأحزاب الوطنية الديموقراطية التي كانت مساندة لها، منذ تشكيل حكومة التناوب الديموقراطي، وهذا طبيعي، بحكم اختلاف الموقعين: حكومة تدبر الشأن العام، ونقابة لها مطالب تسعى لتحويلها لمكاسب.
ورغم عديد المكتسبات التي حصلها الصحافيون في تلك المرحلة، فلا يمكن أن ننكر أن النقابة لم تكن متساهلة مع حكومة التناوب، وظلت صوتا مزعجا ومنبها ومرافعا عن المهنة.
وإذا كان البعض ما يزال يتحدث عن هيمنة حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاستقلال على مقاليد النقابة، فيمكنه الاطلاع على لائحة أعضاء كل هياكل النقابة الوطنية والجهوية والمحلية والقطاعية والتي تعرف تعددية حقيقية، ليتبين له خطأ هذا الادعاء، فضلا على أننا قد تجاوزنا مرحلة الكتلة الديموقراطية، حيث كان الحزبان لهما نفس الموقع، وينسقان في العديد من المعارك: ملتمس الرقابة، الترشيح المشترك، مذكرات التعديلات السياسية.. ودخلنا مرحلة أخرى، بحيث اليوم نجد أحد الحزبين في المعارضة والآخر جزء من الأغلبية الحكومية، فهل نحسب النقابة الوطنية للصحافة المغربية، والحالة هذه على الحكومة أم على معارضتها؟
وبالعودة إلى المطالب التي ترفعها النقابة الوطنية للصحافية المغربية، والمعارك التي تخوضها، كما القضايا التي تنبه لها، سنجد أن أولويات النقابة تغيرت مقارنة بالمراحل السابقة.
ذلك أن النقابة إلى حدود التسعينيات كانت تركز على قضايا الديموقراطية، إذ لا يمكن حماية حرية الصحافة دون حد أدنى من القوانين التي تؤمن الحقوق والحريات الأساسية، إذ لا صحافة دون حرية الرأي والتعبير، فيصح القول أنه إلى حدود تلك المرحلة كان السياسي طاغيا، ولا يمكن اعتبار ذلك انحرافا عن هوية العمل النقابي، بل كان ضرورة وواجب الوقت.
أما اليوم، وأمام المكتسبات المحققة على مستوى الحقوق والحريات والديموقراطية، فإن النقابة الوطنية للصحافة المغربية أضحت أكثر تركيزا على خصوصية المهنة، وبمقاربة تزاوج بين الحق والواجب.
فمن ناحية الحق، تواصل النقابة ترافعها على حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكافة العاملين في مهن الصحافة والنشر والإعلام، ومطالبتها بتحيين الأطر القانونية لتكون أكثر حماية لحرية الصحافة ومسايرة للتطورات الحاصلة في القطاع كونيا.
ومن زاوية الواجب، ما فتئت النقابة الوطنية للصحافة المغربية تركز على ضرورة التكوين الأساس والمستمر للصحافيين، وضرورة الاحترام التام لميثاق أخلاقيات المهنة.
وبموازاة الحق والواجب، لا تنسى النقابة الوطنية للصحافة المغربية أدوارها الوطنية، سواء داخل المنظمات غير الحكومية الوازنة إقليميا وقاريا ودوليا، والتي هي عضو فيها، أو من خلال الانخراط الواعي والمسؤول في مواجهة كل المخططات التي تستهدف بلادنا من مدخل الإعلام.
إن النقابة الوطنية للصحافة المغربية تجد نفسها اليوم في مفترق طرق، وواجبها أن تحافظ على استقلاليتها ومبادئها، ولذلك تجد نفسها أكثر من مرة في مرمى نيران صديقة: زملاء متورطون في انتهاك أخلاقيات المهنة، مقاولات نعتبرها شريكة في النهوض بالمشهد الإعلامي، لكن بعضها لا يفي بالتزاماته تجاه الصحافيين وعموم العاملين بالمقاولة، وحكومات متعاقبة نعتقد أنه لم يحصل لها بعد الوعي بأهمية تحقيق الانتقال الإعلامي.
والواجب يحتم علينا أن نرضي التزاماتنا أولا تجاه من انتخبونا، وأن ننحاز إلى مصلحة المهنة أولا وأخيرا.
ولذلك فإذا كنا نرفض التفريط في استقلاليتنا، فإننا بالقدر نفسه لسنا عدميين، بل مددنا اليد ومستعدون لمدها اليوم لكل من يسعى لانتشال المهنة من الهوة التي سقطت فيها، سواء كانوا ناشرين أو القطاع الوصي على المهنة، وهذا دور ترافعنا اليوم من أجل تحييين القوانين المنظمة للمهنة، بما فيها القانون المعدل للمجلس الوطني للصحافة المغربية وباقي القوانين الخاصة بقطاع الصحافة والنشر .