حين يستعيد التاسع من دجنبر معنى الوساطة… شهادة مخاطب رسمي سابق

أخبار وطنية

بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام والصناعة الثقافية .
مخاطب رسمي سابق لدى مؤسسة ديوان المظالم (2004 – 2011)

لم يكن البلاغ الصادر مؤخرًا، والقاضي بموافقة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده على اعتماد يوم التاسع من دجنبر يومًا وطنيًا للوساطة المرفقية، مجرد خبر عابر بالنسبة لي. لقد حرّك داخلي طبقات عميقة من الذاكرة المهنية والإنسانية، وأعادني إلى تلك السنوات التي تشرفت خلالها بالعمل مخاطبًا رسميًا لدى مؤسسة ديوان المظالم بين 2004 و2011. سنوات حملت الكثير من التحديات، والكثير من الدروس، والكثير من الفخر.

  • سنوات لا تُنسى… حين كانت الوساطة تتحول من فكرة إلى ممارسة

كانت تلك المرحلة لحظة تأسيسية بامتياز. كانت الوساطة المؤسساتية ما تزال تخطّ خطواتها الأولى داخل الثقافة الإدارية المغربية، لكن الإيمان الملكي العميق بهذا الورش كان يمنحنا قوة استثنائية. فقد كان واضحًا أن الأمر لا يتعلق بإصلاح عابر، بل برؤية ملكية شاملة تستهدف إعادة بناء العلاقة بين المواطن وإدارته على أسس جديدة: الإنصاف، القرب، والإنصات.
كنا نتوصل بملفات معقدة، متشابكة، ومؤلمة أحيانًا؛ لكنها كانت تشترك في خيط رفيع واحد: مواطن أنهكته المساطر، ولم يصل إلى العدالة الإدارية التي يستحقها. وهنا يبدأ دور الوساطة، كجسر بين المواطن والمرفق العام، وكآلية لإعادة التوازن بين منطق القانون وروح الإنصاف.

  • الوساطة… مدرسة في الاستماع وصياغة معنى جديد للمرفق العام

لقد كانت الوساطة مدرسة حقيقية. تعلّمنا من خلالها أن الإصغاء ليس تقنية، بل ثقافة كاملة. المواطن الذي يطرق باب الوسيط لا يبحث فقط عن حل، بل عن اعتراف بمعاناته. وتعلّمنا أن الإدارة ليست دائمًا خصمًا، بل شريكًا يحتاج إلى توجيه، وإلى تذكير مستمر بروح القانون، وإلى من يُعيد إليها أحيانًا بوصلة الإنصاف.
وفي كل ملف كنا نتابعه، كان يتأكد لنا أن الوساطة ليست آلية مساعدة، بل مكوّن من مكوّنات الحكامة الجيدة، ورافعة لتحسين أداء المرفق العام وتجويد علاقة الدولة بمواطنيها.

  • تجربة رائدة من عبقرية ملك… ملك يحب الخير لشعبه

إن هذه التجربة لم تكن لتنجح لولا الرؤية الملكية الثاقبة التي أطلقتها حفظه الله . فمنذ اعتلائه العرش، أدرك جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده أن بناء دولة حديثة لا يستقيم دون ترسيخ العدالة الإدارية وحماية حقوق المرتفقين. وهكذا جاءت مؤسسة ديوان المظالم، ثم مؤسسة الوسيط لاحقًا، كأحد تجليات عبقرية ملك جعل الإنسان في صلب كل إصلاح.
لقد كان جلالته حفظه الله دائمًا حريصًا على أن يكون صوت المواطن مسموعًا، وأن تكون الإدارة في خدمته. وقد لمسنا، نحن المخاطبين الرسميين، هذا العمق الإنساني في كل توجيه ملكي وفي كل خطاب يتحدث عن المواطن وحقوقه وكرامته. كان واضحًا أن الملك لا يرى في المواطن رقمًا أو ملفًا إداريًا، بل يرى فيه قيمة يجب أن تُصان، وكرامة يجب ألا تُمس.
وهكذا أصبحت الوساطة تجربة مغربية رائدة، ليس فقط لأنها حلت آلاف الملفات، بل لأنها أرسَت فلسفة جديدة في الإدارة: الإنسان أولًا.

  • قرار ملكي يؤكد أن المسار مستمر

إن اعتماد يوم وطني للوساطة المرفقية هو تتويج لمسار انطلق منذ الرسالة الملكية التاريخية لسنة 2001، وهو أيضًا اعتراف ضمني بالجهود التي بذلتها أجيال من العاملين داخل مؤسسة الوسيط وفي مختلف الإدارات العمومية التي احتضنت المخاطبين الرسميين.
ليس قرارًا رمزيًا فحسب، بل رسالة قوية بأن الوساطة أصبحت اليوم رافعة أساسية لحكامة المرفق العام، وعنصرًا محوريًا لتعزيز الثقة بين الدولة والمواطن.
كما هو دعوة مفتوحة لإعادة تقييم الممارسة الحالية، وتطوير آليات أكثر فاعلية وابتكارًا، حتى تصبح الوساطة جزءًا أصيلًا من العمل الإداري اليومي، وليس فقط ملاذًا بعد وقوع المشكل.

  • التاسع من دجنبر… يوم من أجل الذاكرة ومن أجل المستقبل

بالنسبة لمن عاش تجربة ديوان المظالم من الداخل، سيظل هذا التاريخ لحظة اعتزاز وتأمل في آن واحد. لحظة لاستحضار القيم التي تأسست عليها الوساطة: الإنصات، النزاهة، التجرد، والإنصاف. ولحظة للتفكير في مستقبل هذا الورش، وكيفية تحويله إلى ممارسة متجذرة داخل كل إدارة مغربية.
إن الاحتفاء بهذا اليوم يجب أن يكون مناسبة لا لتذكر الماضي فقط، بل لبناء المستقبل: مستقبل إدارة مغربية أكثر قربًا، أكثر حكامة، وأكثر قدرة على أن تكون في مستوى تطلعات مواطنيها.

  • فخر شخصي… ورسالة تستمر

وأنا أستعيد تفاصيل تلك السنوات، أشعر بفخر كبير لأنني كنت جزءًا متواضعًا من هذا الورش الإصلاحي الذي وضع لبناته الأولى ملك عظيم يحب الخير لشعبه الوفي. فخر لأنني، مع زملاء كثر، ساهمنا في مرحلة مفصلية من تاريخ الإدارة المغربية، في بناء علاقة جديدة بين المواطن ومؤسسته.
ومع إقرار هذا اليوم الوطني، أجد من الواجب أن نعيد جميعًا طرح السؤال الجوهري:
كيف نجعل الإدارة أكثر إنصافًا، وأكثر إنصاتًا، وأكثر قربًا من المواطن؟
فالوساطة ليست مجرد وظيفة ولا مهمة… إنها رسالة. ورسالة كهذه تستمر مهما تغيّرت المناصب والمهام.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً