قدم السيد شكيب بنموسى رئيس لجنة النموذج التنموي، تقرير اللجنة أمام أنظار جلالة الملك. بعد ذلك شرع أعضاء هذه اللجنة في عقد لقاءات والقيام بجولات لشرح مضامين النموذج التنموي الجديد. وقد ساهم هذا التقرير في خلق نقاش مجتمعي لا يمكننا إلا أن نعتبره نقاشا صحيا بل ومطلوبا، اعتبارا لكون نجاح أي نموذج تنموي رهين بانخراط جميع شرائح المجتمع وخلق تعبئة مجتمعية شاملة.
لكن النقاش الدائر حاليا حول تقرير لجنة النموذج التنموي، يخرج في بعض الأحيان عن السياق التنموي، ويبتعد عن الأهداف المسطرة لهذه اللجنة، بل ويُحملها أمورا وآراء بعيدة كل البعد عن روح عملها. ونقصد بالتحديد إدراج مواضيع حرية التعبير والانتقال الديمقراطي وحقوق الإنسان واعتقالات الصحفيين وطبيعة النظام السياسي، ومساءلة اللجنة عن السبب في عدم إبراز هذه المواضيع بشكل قوي في تقريرها. بل هناك من ذهب إلى حد اعتبار هذه المواضيع هي صلب التنمية في خلط كبير في المفاهيم ليس هنا مجال التفصيل فيه.
من المفيد التأكيد على أن النموذج التنموي يندرج في منظومة الرقي والتقدم التي تتكون من عناصر كثيرة على رأسها النظام السياسي والبعد الديمقراطي والخيارات الاقتصادية وحرية التعبير وحقوق الإنسان. لكن من الخطأ اعتبار هذه العناصر من مكونات النموذج التنموي، وأن تحقيق الطفرة التنموية في بلادنا يقف على هذه العناصر المرتبطة بالنظام السياسي والخيار الديمقراطي والحريات بمفهومها الكوني. فيصبح الفعل التنموي متوقفا على تطور النظام السياسي ومدى تقدم الديمقراطية في البلاد. وواقع الحال يقول بأن تحقيق الرقي والتقدم يرتكز على منظومة تشمل البعد الديمقراطي وطبيعة النظام السياسي والخيارات الاقتصادية، وتأتي التنمية كجزء من هذه المنظومة. وهذا ما نجده في الكثير من الدول التي حققت طفرتها التنموية في العقود الأخيرة، لكنها لا زالت تبحث عن كيفية إدراك التأخر في مجالات أخرى مرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من العناصر المكونة لمنظومة الرقي والتقدم. وأبرز مثال على هذا الأمر هو الصين والهند. فإذا كانت هذه الأخيرة حققت نموذجا ديمقراطيا فريدا أصبحت معه توصف بأكبر ديمقراطية في العالم، إلا أنها لا زالت تتأرجح في التوزيع العادل لطفرتها التنموية الكبيرة، وجعل العائد التنموي يتوزع بشكل عادل على جميع شرائح المجتمع. عكس الصين التي حققت تنمية جعلتها تحتل الرتبة العالمية الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها متأخرة من حيث الممارسة الديمقراطية أمام الهند. نفس الأمر ينطبق على باقي الدول التي نجحت في نموذجها التنموي كتركيا وماليزيا وسنغافورة في آسيا، ورواندا وبوتسوانا في إفريقيا، والبرازيل والشيلي في أمريكا اللاتينية.
نعود لتقرير النموذج التنموي الجديد، لنقول بأن النقاش يجب أن يصب في صلب الموضوع، أي تحقيق الطفرة التنموية التي تسمح بالإقلاع الاقتصادي، وألا يسبح النقاش في مواضيع مرتبطة بمنظومة شمولية يُعتبر النموذج التنموي جزءا منها، وليس نموذجا شاملا ومحتضنا لها. الحديث عن النموذج التنموي، إن أردنا تركيز مفاهيمه والابتعاد عن كثرة التفاصيل التي يمكن أن تتسبب في فقدان بوصلة النقاش، يمكننا أن نختزله في ثلاثة مفاهيم:
-1- خلق الثروة
-2- التوزيع العادل للثروة
-3- بناء وصيانة قيم وكرامة الإنسان
نعم، هذه المفاهيم الثلاثة هي التنمية وهي البوصلة الناجعة لفهم جيد للنموذج التنموي. كل التفاصيل التي تحدث عنها تقرير النموذج التنموي تصب في عنصر من العناصر الثلاثة. فمثلا حديث التقرير عن نمو يفوق 6% لمعالجة اختلالات سوق الشغل وتوفير الأموال الضرورية للنهوض بالصحة والتعليم، وكذلك الرفع من الناتج الداخلي الخام للفرد والرفع من نسبة قيمة الصناعة في الناتج القومي، كلها تدخل في إطار مفهوم “خلق الثروة”. كذلك اقتراحات النهوض بالفئات الهشة، ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، كلها تدخل في مفهوم “التوزيع العادل للثروة”. وحتى التنمية المستدامة التي ركز عليها التقرير خاصة في مجال الطاقة والماء تدخل في هذا الإطار اعتبارا لكون التوزيع العادل للثروة لا يقتصر على كل الفئات المجتمعية فحسب، بل يشمل كذلك التوزيع العادل بين الأجيال الحالية والأجيال المستقبلية. أما التكوين والابتكار والبحث العلمي التي جاء بها التقرير، وكذلك الميثاق الوطني للتنمية وغرس الطموح التنموي في المغاربة، فهي تدخل في مفهوم “بناء الإنسان” اعتبارا لكونها قائمة على تطوير الموارد البشرية. حتى المحاور الأربعة الرئيسية للتحول التنموي التي حددها التقرير في: تطوير الاقتصاد وتعزيز الرأسمال البشري والإدماج وأخيرا المجالات الترابية، تنصب كلها في المفاهيم الثلاثة للتنمية.
تحقيق نموذج تنموي ناجح، يمر عبر إرادة سياسية صادقة مصحوبة بحكامة جيدة قائمة على أساس ربط المسؤولية بالمحاسبة، يمر كذلك عبر تعبئة مجتمعية تنخرط فيها كل شرائح المجتمع ومصحوبة بنقاش يتطرق لصلب الموضوع ويبتعد عن تعويم النقاش والخلط بين السياسة والتنمية، ويبتعد كذلك عن كثرة المديح الذي يجعل منه تقريرا للاستهلاك وليس لتحقيق الرخاء. تقرير النموذج التنموي أتى باقتراحات جديدة يجب تدارسها ولما لا العمل على تطويرها، وأتى كذلك بأمور قائمة في بلادنا وجب علينا تثمينها. هذه هي طريق تحقيق التنمية. أما ربط التقرير بنقاش حقوق الإنسان والحريات والخيار الديمقراطي فهو نقاش إذا استحضر تاريخ البلاد منذ فجر الاستقلال فلن يحقق لا الخيار الديمقراطي ولا منظومة حقوق الانسان ولا التنمية المنشودة، وربما أوصلنا إلى مآلات برنامج التقويم الهيكلي لسنة 1983 أو السكتة القلبية التي أفرزت حكومة التناوب.
سعيد الغماز