سكينة نايت الرايس
تواجه تربية النحل في جهة سوس ماسة تحديات متزايدة بفعل التغيرات المناخية المتسارعة، التي باتت تؤثر بشكل مباشر على مردودية الإنتاج وجودة العسل. ويؤكد المهنيون أن هذه التحولات المناخية لم تعد مجرد ظواهر موسمية، بل تحوّلت إلى نمط جديد مناخي فرض واقعًا مقلقًا على القطاع، انعكست تداعياته على مختلف مراحل دورة تربية النحل، من نشاط الطوائف إلى وفرة الأزهار وجودة المراعي.
وتعد تربية النحل نشاطًا فلاحيًا حيويًا في جهة سوس ماسة، نظرًا لما توفره من فرص شغل ومساهمة في الدورة الاقتصادية المحلية. إلا أن هذا النشاط أضحى مهددًا اليوم في عمقه بفعل اختلالات مناخية متكررة، تشمل تغير توقيت الفصول، وندرة التساقطات، وارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات غير مألوفة، وهي عوامل تؤثر سلبًا على الإزهار الطبيعي، وبالتالي على النظام البيئي الداعم للنحل، مما يقلص فرص الإنتاج ويهدد استمرارية هذه السلسلة الحيوية.
ويضطر مربو النحل في ظل هذا الواقع إلى اعتماد تدابير استثنائية، أبرزها الترحال الموسمي نحو مناطق أكثر رطوبة واعتدالًا، وتعديل طرق التربية والرعاية، بما فيها تحسين التهوية داخل الخلايا، وترشيد الزيارات الميدانية، والبحث عن مصادر بديلة للرحيق، في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من الإنتاج وضمان البقاء في السوق.
وفي هذا السياق، سجل عدد من مربي النحل خلال الموسم الصيفي الحالي تراجعًا واضحًا في إنتاج العسل، نتيجة موجات الحرارة المرتفعة، والجفاف المتواصل الذي أثر على نمو النباتات وتنوع الغطاء النباتي. وقد ساهم هذا الوضع في خسائر كبيرة على مستوى خلايا النحل، إلى جانب ضعف جودة الرحيق، مما أدى إلى تدني مردودية النحالين واضطرارهم إلى تغيير عدد من ممارساتهم التقليدية، للتأقلم مع التحولات البيئية المفروضة.
تربية النحل في أرقام: بين المؤهلات والضغوط
يتوفر المغرب على مؤهلات طبيعية كبيرة في مجال تربية النحل، بفضل تنوع موارده العلفية من الغابات الطبيعية، كالأوكاليبتوس والأرگان، إلى الزراعات الصناعية مثل عباد الشمس والكولزا، بالإضافة إلى النباتات الجبلية العطرية والطبية، كإكليل الجبل، والزعتر، والدغموس. هذا الغنى النباتي يجعل من المغرب موطناً لإنتاج أكثر من سبعة أصناف مرمزة من العسل، تختلف باختلاف المناطق والبيئة المناخية.
وتحتل جهة سوس ماسة مكانة متميزة على المستوى الوطني في هذا المجال، إذ تُعرف بإنتاج نوعين ذوي قيمة عالية: عسل الزعيترة، وعسل الدغموس، وهما منتوجان يتمتعان بخصوصيات طبية وغذائية مطلوبة في الأسواق المحلية والدولية.
ووفق معطيات وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات (2019)، يبلغ حجم إنتاج العسل بالجهة حوالي 2250 طناً سنوياً، بقيمة مضافة تصل إلى 203 ملايين درهم، وتوفر سلسلة الإنتاج ما يفوق 643,943 يوم عمل، موزعة بين الإنتاج المباشر، والخدمات اللوجستية، والأنشطة المرتبطة بالبيع والتسويق.
غير أن هذه المؤشرات، حسب مهنيين، تشهد تراجعاً مستمراً خلال السنوات الأخيرة، بسبب التغيرات المناخية التي أضرت بانتظام مواسم الإزهار، وجودة المراعي الطبيعية. وأصبح النحالون يواجهون موسماً بعد آخر خطر تراجع الإنتاج، وفقدان أصناف مميزة، مثل عسل الزعيترة الذي سجل غياباً شبه تام في الموسم الحالي، وهو ما ينذر بانكماش متسارع في قطاع لطالما ساهم في استقرار الاقتصاد التضامني.

تغيرات مناخية تعصف بالإنتاج وتقلص نشاط النحالين
أكد لحسن، نحال من جماعة إضمين بعمالة أكادير إداوتنان، أن التغيرات المناخية أثرت بشكل مباشر على قطاع تربية النحل، مشيرًا إلى أن سنوات الجفاف المتتالية، وموجات الحر الشديدة، تسببت في تراجع الإنتاج وموت أسراب النحل في بعض المناطق. كما أوضح أن التساقطات المطرية المسجلة خلال شهري مارس وأبريل الماضيين منحت بعض الأمل للمربين، غير أن الارتفاع المفاجئ في درجات الحرارة بعدها أحبط تطلعاتهم من جديد وأعاد الأزمة إلى الواجهة.
من جهته، أفاد سعيد، نحال من إقليم اشتوكة آيت باها، بأن ارتفاع درجات الحرارة دفع النحالين إلى تقليص نشاطهم الميداني، مضيفًا أن النحل نفسه يعزف عن مغادرة خلاياه بسبب الحرارة الشديدة، مما يؤثر سلبًا على إنتاج العسل. كما أدى ضعف الغطاء النباتي إلى تراجع كبير في تنوع الأزهار، وهو ما انعكس مباشرة على مردودية النحالين.
وأضاف النحالان أن غياب عسل الزعيترة الذي تشتهر به الجهة بشكل شبه كلي هذا الموسم، وتراجع كميات عسل الدغموس والعرعار، يعكسان حجم الأزمة التي يعيشها القطاع. كما أصبحت المراعي الطبيعية للنحل عرضة لأمراض مرافقة للتغيرات المناخية، خصوصًا خلال فترات الحر الشديد، ما يزيد من حجم الخسائر المسجلة سنويا.

دعوات متكررة للتدخل وتوفير دعم مستدام
يرى محمد العميري، رئيس الجمعية الإقليمية لمربي النحل بأكادير إداوتنان، أن تداعيات التغيرات المناخية لم تعد مجرد مخاوف نظرية، بل تحولت إلى واقع يومي يعيشه المربون، خاصة في مناطق مثل إيموزار إداوتنان وأمسكرود، حيث سُجلت حالات موت لطوائف نحل بأعداد مقلقة. وأشار إلى أن هذا الوضع يعمّق من أثر ظاهرة انهيار خلايا النحل التي برزت بشكل واضح سنتي 2021 و2022، مضيفًا أن العديد من النحالين اضطروا لترك المهنة مؤقتا أو نهائيا، بحثا عن موارد أخرى لتغطية مصاريفهم المتزايدة.
من جانبه، أكد محمد بن الشيخ، المنسق الجهوي للنقابة الوطنية لمحترفي تربية النحل بالمغرب، أن التساقطات المطرية المسجلة خلال سنة 2025 أسهمت جزئيا في تجديد الغطاء النباتي، إلا أن ذلك غير كافٍ لتعويض الخسائر. وأضاف أن تجاوز هذه الأزمة المناخية يتطلب استمرار التساقطات لثلاث أو أربع سنوات متتالية، إلى جانب إجراءات داعمة لتحسين مناعة النحل الذي أصبح أكثر عرضة لأمراض خطيرة مثل “الفارواز” و “تكيس الحضنة” (LE COUVIN SACCIFORM).

واعتبر ذات المتحدثان أن الترحال الموسمي بات ضرورة وليس اختيارًا، لتفادي الخسائر المرتبطة بالجفاف والتقلبات الجوية، حيث قد تصل خسائر النحالين غير المترحلين إلى 60% من الإنتاج، مشددين على ضرورة تدخل وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات من أجل إقرار دعم مستدام يستجيب لحاجيات المهنة، من خلال توفير الأدوية البيطرية والمكملات الغذائية التي تساعد على رفع مناعة النحل، وتعزيز قدرته على مقاومة آثار التغيرات المناخية.
وفي انتظار تدخل فعلي من الجهات المعنية، يعتمد المهنيون على إجراءات وقائية في تسيير مناحلهم، من بينها تقليص فترات الزيارة، وتفادي فتح الخلايا في ذروة الحرارة، واعتماد صناديق معزولة حرارياً، وتوفير مياه باردة ونظيفة قرب المناحل، وتوسيع المسافات بين الإطارات لتفادي التكدس، إلى جانب تجنب عمليات الفحص أو فرز العسل خلال الأيام شديدة الحرارة.