بوريطة من نيويورك: مشروع الدول الإفريقية الأطلسية يدخل مرحلة التفعيل الميداني

خارج الحدود

بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية

في مشهد سياسي إقليمي يتسم بالتغير السريع وتعدد التحديات، يبرز مسلسل الدول الإفريقية الأطلسية كأحد أكثر المبادرات طموحًا واستشرافًا لمستقبل القارة الإفريقية. المبادرة، التي أطلقها صاحب الجلالة الملك محمد السادس سنة 2022، لم تعد مجرد فكرة دبلوماسية طموحة، بل تحولت ( بحسب تصريح وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة ) إلى “واقع ملموس” يشهد دينامية متسارعة ويبدأ في تحقيق أولى ثماره.

  • إفريقيا الأطلسية: من الجغرافيا إلى الجيوستراتيجية

يمتد الساحل الأطلسي الإفريقي على آلاف الكيلومترات، ويضم 23 دولة تتقاسم الجغرافيا والمصير. هذه الوحدة الجغرافية، التي طالما كانت مجرد حدود بحرية، تُعاد قراءتها اليوم كجسر للتكامل الاقتصادي، والتحالف الأمني، والانفتاح الجيوسياسي على فضاءات واسعة تمتد نحو أوروبا والأمريكتين.
المعطيات التي قدّمها السيد بوريطة خلال الاجتماع الوزاري السادس بنيويورك تُسلّط الضوء على الإمكانات الهائلة للفضاء الأطلسي الإفريقي: 46 ميناءً رئيسيًا، 350 مليون نسمة، منطقة اقتصادية خالصة تفوق 13 مليون كلم مربع، واحتياطات ضخمة من الغاز البحري والثروات السمكية. هذه الأرقام لا تعكس فقط الموارد، بل تكشف عن طموح لرسم ملامح تحالف جديد على أساس المصالح المشتركة بدلًا من الاصطفافات التقليدية.

  • الاقتصاد الأزرق: محور للتنمية المستدامة

واحدة من أبرز ثمار هذا المسلسل تكمن في إغناء خطة العمل حول الاقتصاد الأزرق، لا سيما بإدماج محور تربية الأحياء المائية، مما يعكس تحولًا من الشعارات إلى خطوات عملية. تنظيم المغرب للمعرض الدولي للموانئ سنة 2026 سيكون بدوره فرصة لتثبيت الريادة الإقليمية وتعزيز ربط البنية التحتية البحرية بين الدول الأطلسية الإفريقية.

  • أمن المحيط: التحدي الحاسم

لكن وسط هذه الدينامية، يبقى التحدي الأمني حاضرًا بقوة. فخليج غينيا، الذي سجل أكثر من 60% من حوادث القرصنة البحرية في إفريقيا سنة 2024، يظل نقطة ضعف تهدد أي مشروع تكاملي. كما أن طرق التهريب عبر الأطلسي، خاصة نحو أوروبا، تزيد من الضغط على دول المنطقة لتطوير تعاون أمني واستخباراتي متعدد الأطراف.
من هذا المنطلق، تبدو مسألة الأمن البحري جزءًا لا يتجزأ من رؤية المسلسل، لا كمجرد حماية للممرات البحرية، بل كشرط أساسي لجذب الاستثمار وتأمين التجارة وتحقيق الازدهار.

  • من الجنوب إلى العالم: انفتاح مدروس

المسلسل لا يهدف فقط إلى خلق فضاء إقليمي منغلق، بل يطمح، كما أشار الوزير بوريطة، إلى الانفتاح على باقي الفاعلين في الحوض الأطلسي، ما يعزز الطابع العالمي للمبادرة ويمنحها زخمًا دوليًا. الدفاع عن الرؤية الإفريقية داخل المعادلة الأطلسية الكبرى (التي تشمل أوروبا والأمريكتين) يُعد خطوة جريئة، تسعى لتغيير صورة إفريقيا من “متلقٍ للدعم” إلى “فاعل استراتيجي” يمتلك قراره ويؤطر مصالحه.

  • رؤية ملكية قيد التحقق

إن قراءة التحولات المتسارعة في مسلسل الدول الإفريقية الأطلسية تقودنا إلى نتيجة واضحة: المغرب لا يكتفي بلعب دور الوسيط أو المستضيف، بل يُرسّخ موقعه كمحرك محوري للتكامل الإقليمي، مستندًا إلى رؤية ملكية استراتيجية ترى في الجنوب الإفريقي ( لا فقط الشمال الأوروبي ) عمقًا طبيعيًا واستراتيجيًا.
فبعد اجتماع برايا في ماي 2025، ومن خلال الحضور القوي في قمّة “إفريقيا من أجل المحيط” بمدينة نيس، وصولًا إلى الاجتماع الوزاري الأخير في نيويورك، يتضح أن المشروع لم يعد حبيس الورق، بل أصبح آلية عمل تنتج قرارات، وتوحد جهودًا، وتؤسس لتكتل قد يعيد رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.

  • خاتمة: من أجل أطلس إفريقي آمن ومزدهر

يبقى التحدي الحقيقي في ضمان استمرارية الزخم السياسي، وتوفير التمويل الكافي للمشاريع المشتركة، وتجاوز الاختلافات الثنائية بين بعض الدول الأعضاء. لكن في المقابل، فإن توفر الإرادة السياسية، والبنية المؤسساتية الناشئة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، كلها مؤشرات توحي بأن مسلسل الدول الإفريقية الأطلسية في طريقه للتحول من “مشروع إقليمي” إلى “نموذج قاري”.
في عالم تتغير فيه التحالفات وتتعدد الرهانات، تثبت إفريقيا من جديد أنها ليست على الهامش، بل قادرة على المبادرة وصياغة مستقبلها، من خلال مشاريع نابعة من أرضها، وموجهة نحو مصالح شعوبها .