اكادير24*
السياسة الجنائية تنبني على تحقيق اكبر قدر ممكن من الحماية للثقة العامة ومنها للمال العام، و تعتبرها هي القاسم المشترك بين جميع الأطراف في جرائم المال العام، أخذا بعين الاعتبار خطورة الفعل و خصوصية الفاعل، كما تتميز جرائم المال العام عن باقي الجرائم المنصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي المغربي بخاصية العمومية، سواء على مستوى المال محل الاعتداء، و كذلك على مستوى صفة الفاعل أو المعتدي، وكذلك على مستوى الشخص المعتدى عليه، بحيث تجسد الدولة كأول متضرر من هذه الجرائم، و يضل موظف الدولة ( الموظف العمومي) هو المختلس الاول او الفاعل الاصلي في هذه الجرائم.
ويبقى المعتدى عليه : وهو المجتمع المغربي وكذلك الدولة أو من يقوم مقامها من إدارات و مرافق عمومية و الشبه عمومية، معرضة بشكل شبه يومي لجرائم المال العام لأسباب منها ماهو سياسي بالدرجة الاولى وماهو قانوني بالدرجة الثانية.
فالمصلحة المحمية في جرائم المال العام، تقتضي حماية الدولة باعتبارها أول متضرر من سوء التسيير، خاصة في المجال المالي، و ذلك لوقوع الاعتداءات على أموالها من نهب و اختلاس و استيلاء الى غير دلك ، و انعكاس ذلك على ميزانيتها و بالتالي على تنفيذ مخططاتها و مشاريعها و على المنافع و الخدمات التي تقدمها للجمهور، فالمساس بهذه الحماية التي تكفلها أجهزة الدولة المكلفة بمراقبة المال العام و كذلك القضاء المختص في هذه الحماية، هو إعتداء مباشر على اقتصاد الدولة. ما ينجم عنه اضرار وخيمة على الامن الاقتصادي و الاجتماعي الدي تنبني عليه السياسة الحمائية للمال العام.
غير ان المراكز السياسية وما يصاحبها من مزايا و امتيازات اجتماعية و ادارية، تشكل حصنا قويا وسياجا يقي ناهبي المال العام من المحاسبة او المتابعة القضائية.
واذا كانت جرائم المال العام من الجرائم المستفحلة بشكل مهول في الاونة الاخيرة بالمغرب، فانما يعود الى ازدواجية السلطة و السياسة و المال، حيث ان السياسي الجشع يظفر بصفقات بطرق غير قانونية باسم شركات يديرها اقرباؤه المستثمرين، و الشركات التجارية العائلية لذووا النفوذ، وكثيرا ما يمتد الى التواطؤ في شبهة الاستيلاء على الاراضي و العقارات بطرق مشبوهة و غير اخلاقية، ، كما قد يستعمل المنتخب السياسي و المحسوبين على هيئات المجتمع المدني، الاموال العامة خارج السياق المخصص لها و تبديدها بغير وجه حق، فهده الجرائم تنزل مرتكبيها منزلة الموظف العمومي، لأنها تجسد إعتداء صريحا على المال العام من اطراف لا ينتمون للقانون المنظم للوظيفة العمومية، حيث يعتبر كل شخص وضعت تحت يده أموال عامة في حكم الموظف العمومي، حتى و لو لم يكن كذلك وفق مفهوم الفصل 224 من القانون الجنائي المغربي، لكونه أصبح ضمن دائرة الثقة العامة، و يتابع تبعا لذلك من أجل جرائم المال العام، بدلا من متابعته بجرائم السرقة و خيانة الأمانة، فقد يكون هذا الشخص مستخدما بالقطاع الخاص، و لكنه يعامل في هذه الحالة معاملة الموظف العمومي، لكونه مسؤول عن صرف المال العام، و هذا يدخله في باب تقديم خدمة ذات نفع عام وفق مفهوم الفصل السالف الذكر، غير ان القانون وحده يبقى قاصرا لردع ناهبي المال العام، دون ارادة سياسية و قضاء فعال يتمتع بكامل القوة و الاستقلالية.
وفي ظل استفحال جرائم المال العام او ما يصطلح عليه في المغرب ب ( المال السايب) نتساءل عن جدوى دسترة المجلس الاعلى للحسابات؟ والذي رصدت له ميزانية ثقيلة ليقوم باللازم من اجل اعداد تقارير واحالتها على النيابة العامة، بل اكثر من ذلك اعدت هذه المؤسسة الدستورية تقارير تفيد اختلاس كبار موظفي الدولة لأموال دافعي الضرائب دون ان تحرك ضدهم المتابعة ؟ لا شك ان الجواب على هذا السؤال لن يفيد في شيء قبل الافراج عن مسودة القانون الجنائي الذي حكم عليه بالإقامة الجبرية في غرفتي البرلمان بين ايدي نواب الامة المعارضون للفصل المتعلق بالإثراء غير المشروع، و الذي قد يرسل عددا منهم الى السجن بسبب صعوبة تبرير الثروة.
وفي انتظار خروج مشروع القانون الجنائي بعد ازيد من خمس سنوات من الشد و الجدب داخل دهاليز البرلمان، نصل الى نتيجة مفادها ان المسؤول عن حماية المال العام بالمغرب لا يعدوا ان يكون هو الفاعل الرئيسي في هذه الجرائم او المساهم او المشاركـ ، فمن سيراقب من ؟
وتتمثل مسؤولية القضاء المختص في تطوير الآليات الإجرائية التي تفعلها النيابة العامة، بغية كشف جرائم الفساد و تشجيع الإبلاغ عن مرتكبيها، و حماية الشهود و المبلغين، و رفع السر البنكي في إطار ما تأمر به من تحقيقات مالية، و ذلك بالنظر إلى ما يصاحب جرائم الفساد من كتمان.
*عبد الحكيم ابراغ – باحث في المنظومة الجنائية و الحكامة الامنية – جامعة ابن زهر اكادير.