لا احد يجادل في أن الحضارات القديمة و الحديثة لم تؤسس على القوة العسكرية ولا على الهيمنة والنفوذ السياسي والقبلي ، وإنما أسست على قواعد العلم والمعرفة والفنون ، ولا معرفة ولا علم دون أدوات ووسائل لنقلهما عبر الآفاق وعبر الأجيال أي لا معرفة ولا نقل للمعرفة دون كتابة أو دون كتاب ، و رأينا عبر صور وصفحات التاريخ مواقف الأمم المتحضرة كيف أنها واجهت الهجمات والحملات الغازية خوفا على كنوزها المعرفية ، فالصينيون حين أقاموا سورهم العظيم لصد الهجمات ورد الغزاة ليس بغرض إحلال الأسوار والجدران العملاقة محل الجيوش والمقاتلين ، لكن الذي حرك الصينيون لإقامة هذا الصرح العمراني الضخم هو الخوف على الحضارة الصينية مما كان يسمى بالشعوب والقبائل الهمجية في تلك العصور .
كذلك كانت الحواضر والعواصم الثقافية القديمة كلها في نفس موقف وإجراء الصين ، تبني الحصون المانعة والقلاع العالية و الخنادق المسيجة و الأسوار العملاقة و البنايات الضخمة ( كالأهرامات …) ثم تسليح الأذهان والعقول حفاظا ودفاعا عن ارثها الحضاري من اداب وعلوم وفنون وعمران .
وإننا نعلم أن كل جماعة بشرية مهما كان قربها من ” التوحش ” كما يقول ابن خلدون إنما هي تواقة بالطبع إلى الحضارة ، فإذا لم يسمح لها بهذا الحق في التحضر فإنها تتمرد و تنتفض وتستعد بالقوة من اجل الوصول إليها ولو بالطرق العنيفة
كان هذا السلوك العنيف سائدا في الماضي ، وما يزال الصراع بين الأمم قائما حيث تعرضت الحضارات قديمها وحديثها للغزو ، إذ كان الغزاة يقوضون البناء الحضاري للأمم عمرانا و مؤسسات ثقافية أو إحراق الكتب والمؤلفات وإتلافها وإعدام المفكرين والعلماء والأدباء حتى يتأتى لها الانحطاط .
كان هذا شان الحضارة اليونانية مع الروم ، وشان الروم مع الغزاة الهمجيون من شمال أوربا ، وشان العرب مع التتار المغول وصولا إلى الحروب الجديدة التي نشأت مع المد الصليبي و الاستعماري منذ حملة نابليون بونابرت على مصر إلى الغزو الأمريكي للعراق وسرقة الآثار الحضارية القديمة والتحف الفنية .
وان بناء مشروع حضاري هو طموح أساسي ودائم لكل امة أو دولة أو جماعة ، لكنه لابد من إدراك عوائق تأسيس آي مشروع حضاري أو بالأحرى تحديد عوائق التنمية الثقافية .
- عوائق التنمية الثقافية
- الأميـــــــــة
تعتبر الأمية من أكثر الآفات التي تنعكس أثارها بكيفية سلبية على تطور المجتمع وتقدمه كما تسبب في إعاقة انجاز أي برنامج تنموي لأنها تشل طاقات الإنسان وتكبل قدراته وتهمش دوره وتنال من كرامته ومن هنا كانت خطورتها على الوضع الثقافي والحضاري للأمة والمجتمع بما يؤدي إلى إعاقة عملية التنمية والتطور .
- الهيمنة الإعلامية
إن سيطرة الإعلام على الثقافة ، وهيمنة الإعلان على الإعلام يجعلنا في وضعية تبعية ثقافية للمؤسسات و المراكز الإعلامية الكبرى والتي تعمل على تشكيل آراء الناس واتجاهاتهم ومعتقداتهم ، يقول – فيليت كايو – أن هيمنة الإعلام على الثقافة يجعلنا أمام أبجدية جديدة هي أبجدية الصورة التي تشكل ثورة تضاهي ثورة اختراع أبجدية الكتابة والكتاب .
والصورة بما هي كتابة جديدة ستحمل معها ثقافة جديدة منقطعة الصلة بالكتابة الأبجدية وثقافتها وهذا ما يعيد طرح مسالة الغزو الثقافي بشكل مغاير كليا بل جذريا فلم نعد إزاء كتابة تغزو أخرى بل بصدد أبجدية الصورة التي تغزو كل شيء و تقولب وتعلب كل شيء. (د. مصطفى حجازي )
إن جيلنا اليوم يفقد تدريجيا المرجعية الثقافية الوطنية على صعيد الأذواق و السلوكيات والتوجهات بمقدار تزايد هيمنة الثقافة المرئية على بقية الوسائط الثقافية التقليدية .
- عدم امتلاك أدوات العلم
يسير العالم اليوم في طريق واسع شقته احدث وسائل التكنولوجيا وما توصل إليه العلم فانقسمت بذلك دول هذا العالم بحسب امتلاكها لناصية العلم كقوة رئيسية تأتي قبل الموارد الطبيعية من شمال غني بالمعلومات إلى جنوب فقير بالمعلومات ، كما تحولت قوة الموارد البشرية من الأيدي العاملة إلى الأدمغة العاملة وبالتالي أصبحت القوة تعتمد التكنولوجية والعلم والمعرفة ومن يملك العلم والثقافة هو الذي سيسيطر ويقود .
ليس هناك ” نقل ” للعلم ، بل ” تملك ” له ، وهذا التملك لا يحصل إلا بسن سياسة وطنية تقوم على توطين العلوم في المجتمع حتى لا يبقى العلم معزولا عن البنى الاجتماعية والثقافية , ومن المعروف أن الثقافة العلمية والثقافة بصفة عامة بأبعادها الفوقية والاجتماعية والسلوكية تشكل خط الدفاع الأخير عن الهوية الوطنية.
لذا إذا أردنا الدخول في النظم العالمية الجديدة لا بد لنا من الارتكاز على نواة ثقافية صلبة و لا سبيل إلى الهروب من الاعتراف بأننا نعاني حالة متراكمة من الجهالة العلمية والتأخر الحضاري وغياب مناخ محفز على القراءة والبحث والإبداع ، ولذا يجب وضع كل الإمكانيات للنهوض بثقافتنا إذا أردنا البقاء والاحتفاظ بالكيان .
- أهمية الكتاب في بناء المشروع الثقافي الوطني
إن مسالة الثقافة والكتاب ليستا قضيتان فنيتان يمكن أن ينظر إليهما بمعزل عن المشاكل المجتمعية الأخرى بل إنهما جوهر الحياة الحضارية لكل امة أو دولة ، فالكتاب منتوج حضاري كما انه أداة للتربية والتحول الحضاري فهو سبب ومسبب في نفس الآن .
انه لا يمكن أن نعلل باسم الأسبقيات تأجيل تنمية القراءة والكتاب في كل المشاريع الحكومية إلى اجل غير مسمى ، وكأن الثقافة وتشجيع الكتاب مجرد ترفيه أو نزوة عابرة ، كما انه لا قيمة لأسبقية الاقتصاد على التربية والقراءة والكتاب لان الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر بالأميين في عصر العلم والتكنولوجيا . وتارة نسمع أن الأسبقية للتعليم العمومي لكن مجهودات هذا التعليم تضيع في أدغال الجهل العمومي ، خصوصا وان الأمية بشتى أنواعها ( الالفبائية والثقافية والإبداعية …) تغزو المجتمع وتقصي فئة عريضة من المواطنين وفئة واسعة من النساء في أن تشارك في بناء تنمية وطنية لذا فان محور التحول الحضاري الذي نريد أن نخرج به من محاربة الأمية نحن أبناء هذه الأمة العازمة على النمو لا يمكن أن يتم إلا بتجنيد كل الطاقات من اجل القضاء على هذه الكارثة
لأن التحول الحضاري مجهود تكاملي يقتضي مجابهة أسبقيات متعددة في نفس الوقت .
لذا على الدولة أن تعمل على تنمية الصناعة الوطنية للكتاب عبر تطوير آليات الدعم الحكومي في كل المجالات التي تجسد القيمة الثقافية الوطنية أو المحلية حتى نكون قادرين على دخول حلبة المنافسة مع الاقتصاد الثقافي العالمي ، وبالتالي الحفاظ على الهوية الثقافية والخصوصية الوطنية .
انه إذا نظرنا إلى البلدان التي تسعى إلى الرفع من مستوى الشعب المادي والفكري والأخلاقي فإننا نلاحظ أن الكتاب يلعب دورا رئيسيا في جميع المراحل التي تقطعها تلك البلدان التي في طريق التنمية ، فالكتاب أداة ضرورية للتقدم كما انه من أحسن الأسلحة لجميع الثورات.
ومن اللاوعي أن نعتقد بان الوسائل الثقافية الحديثة يمكنها أن تستغني عن الكتاب ، فازدراء القراءة والكتاب والتهافت على وسائل التواصل الحديثة مثل الانترنيت – التلفزيون – السينما – … معتبرين إياها أداة تثقيف مع أنها كثيرا ما تكون وسائل لتبليغ ثقافة مجتمع استهلاكي .
فلابد أن نعي أن هذه الوسائل التكنولوجية الحديثة إنما تأتي مكملة للكتاب وللقراءة في نشر الثقافة وإلا سيكون أللانزلاق إلى الهاوية .
كما أن الاهتمام بالقراءة والكتاب لا يجب أن تبقى محصورا على نطاق المدرسة والجامعة والجامع بعدما أصبحت القراءة عنصرا فعالا من عناصر التقدم العلمي وسلاحا من أسلحة الثورة الثقافية وأداة لا يمكن الاستغناء عنها للنهوض من كبوة التخلف واللحاق بركب الإنسانية.
إن القراءة ترتبط اليوم بمفهوم المردودية و تندرج في إطار التنمية الاقتصادية للبلاد لان الإنسان لابد له أن يقرا وان يقرا بكثرة إذا كنا نريد أن نكون من أبناء عصرنا .
غيران مشكلة ثقافة الكتاب عندنا متعددة ومتشابكة اقلها موضوع كمية إنتاج الكتب التي تعاني ضعفا ملحوظا ، فالأرقام تبين أن معدل استصدار الكتب والمؤلفات عندنا تثير السخرية والاستهزاء إذا قورنت أعدادها بعدد الساكنة التي تقرا أو تجيد القراءة. وفي مقابل وضعنا وحالنا بينت الدراسات أن نسبة إنتاج الكتب في البلدان المتطورة يبلغ ثمانية كتب للشخص الواحد بينما لا تتجاوز هذه النسبة كتابا واحدا لاثنين من السكان في العالم العربي .
و إذا نظرنا إلى عناوين الكتب الصادرة فإننا نلاحظ أن أوربا تنتج ما يربو عن 500 عنوان لكل مليون من السكان ، في حين أن المعدل في العالم العربي لا يتجاوز 40 عنوانا مع العلم أن نسبة الإنتاج في العالم تبلغ سنويا 150 عنوانا لكل مليون من السكان .
و ينبغي – هنا – أن لا نراعي مسالة الكم وحدها ، فالكتب الصادرة في العالم العربي مثلا 75% منها كتب مدرسية في حين أن كتب الثقافة العامة لا تزيد على 25% واغلبها من الكتب الدينية التي أخذت تجذب إليها جماهير القراء ، وقد يكون في نشاط هذا اللون من التأليف رجعة إلى الماضي أو رغبة في التغيير أو احتجاج على الحاضر أو كل ذلك في ان واحد ….لكن على الأقل تبقى حاضرة في السوق وفي التداول و تعطينا رقما محترما في بورصة تداول الكتاب وانتشاره في بلدنا وفي عالمنا العربي والإسلامي
- أزمة الكتاب في زمن الصناعة الثقافية والإبداعية
يشكل الكتاب بشكله الحالي أهم الانجازات في تاريخ الثقافة البشرية وهو مصدر الثقافة الأول ، ولقد ارتبط نشاط الكتاب المغربي ارتباطا وثيقا بسير الأحداث في وطننا قبل وبعد الحماية وسواء أكانت أحداثا سياسية أو اجتماعية أو ثقافية ولم يكن الكتاب فقط مرآة لهذه الأحداث يكتفي بتصويرها ومحاكاتها بل كثيرا ما كان مؤثرا في ظهورها وعاملا في نموها وناقدا لها إذا انحرفت عن مسارها وتوجهاتها .
وعرفت مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي خطا تصاعديا في التأليف والإنتاج والاستهلاك الثقافي ، وفي كل أصناف الكتابة من فلسفة وتاريخ وسياسة وعلوم وإبداع وترجمة وتحقيق … وكان للجامعات المغربية دورا كبيرا في حركة التأليف بل إنها خلقت طبقة جديدة من القراء أوسع ثقافة وأكثر أفقا تعتمد على الكتاب في حياتها ومشوارها العلمي والدراسي ( لنيل الشهادات عليا ) ، وناسف اليوم أن التأليف الجامعي أصبح لا يغطي إلا البرامج والمقررات الدراسية الجامعية في مختلف فروع المعرفة تم تبعتها بعد ذلك عملية طبع ونشر الكتب التي كانت في الأصل رسائل لنيل شهادات جامعية عليا.
ومع بداية التسعينيات تراجع التأليف بشتى ألوانه وخصوصا في صنف الإبداع الأدبي ، وكان الشعر من الأجناس الأدبية التي أصابها الضمور وقد يكون الناشرون سببا في ذلك لكونهم يعتقدون أنها ” مادة ” كاسدة وغير مرغوب فيها ، وفي المقابل اندفعوا إلى الكتب الدينية وسادت بعد ذلك حركة نشيطة في مجال التأليف الديني على اختلافها وتنوعها وتناقضها بل واشتد إقبال القراء عليها .
إلى أن أصبحت الوسائل السمعية البصرية تنافس الكتاب في استصدار المعرفة ، وان كان أنها لا تستطيع أن تعوض الكتاب ولا تجيد إلا تقديم الثقافة السطحية وما يتسم منها بطابع الإمتاع والتسلية .
والكتاب في وطننا يعاني من مشكلات وأزمات حدت من انتشاره وتأثيره نذكر منها :
- الرأسمال الجبان الذي لا يغامر في أن يستثمر في قطاع النشر أو إنتاج الكتب والمؤلفات فأصحاب الأموال القادرين على تحريك المشهد الثقافي وتطويره يقع الكتاب في الدرك الأسفل من اهتمامهم إما لعدم ثقتهم بعائدية الكتاب ومردوده المادي وإما لأنهم بالأصل لا يقدرون قيمة الكتاب ، وأكثر أثريائنا نصيبهم من التعليم والثقافة ضئيل ونصيبهم من التقاليد الحضارية ضئيل ، وثرواتهم يوظفونها في القطاعات التي تدر عليهم الأموال بسرعة ودون عناء .
وأما أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة الذين يوظفون أموالهم في حركة النشر فإنهم يعانون من طول المدة التي ينتظرونها لجني الأرباح وسرعان ما يقلعون عن الاتجار في الكتب عندما تقلع الكتب عن تحقيق إرباح كثيرة وسريعة .
2-الرقابة التي تمنع توريد بعض الكتب والمؤلفات أو تمنع إصدارها وتداولها لكونها تمس بالقناعات والقيم والمؤسسات أو الذوق العام . وفي المقابل يسمح بتوريد الكتب والمؤلفات التي تبحث في قضايا الإنسان الجسدية والصحية والرياضية وكتب التداوي بالأعشاب ,,,
3-تفشي الأمية الالفبائية والثقافية حال دون تداول وانتشار الكتاب خصوصا وأنها تضرب بقوة في صنف فئة الكبار مما يمنع الإنسان الأمي من المشاركة الايجابية في الحياة الثقافية .
4-ضعف الاقتصاد الثقافي ، والاستثمار الثقافي وان أفضل ما يمكن لبلدنا أن تقوم به هو أن تتحكم في ضبط إمكانياتها الاقتصادية وما تملكه من مصادر ثقافية وطنية غنية حتى تكون قادرة على دخول حلبة المنافسة مع الاقتصاد الثقافي العالمي وذلك حين تستطيع الأطر الفكرية والسياسية الوطنية أن تتجاوز عتبة التعريفات البسيطة الخاصة المحددة للصناعة الثقافية بحيث تشمل مفهوم التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، ويقول ” جورج بوديس ” انه حين يكون الاستثمار في مجال الثقافة يؤدي إلى خلق أشكال من الثقة والتعاون والتفاعل الاجتماعي التي ينتج عنها اقتصاد أكثر قوة ونظام سياسي أكثر حرية مع مشاكل اجتماعية اقل .( ومثال ذلك أن الاقتصاد الثقافي للولايات المتحدة الأمريكية يسهم بنسبة 7 % بالنسبة للناتج الإجمالي الأمريكي – السينما – التلفزيون – المتاحف – الكتب ..- ويبلغ معدل استهلاك الفرد في أمريكا من الاستهلاك الثقافي واستهلاك الخدمات الترفيهية 2.5 في المائة من الاستهلاك الكلي العام . أما في الصين وأوربا فالنسبة اكبر مما في الولايات المتحدة الأمريكية)
–5ارتفاع سعر الكتاب من أهم ما يعيق انتشاره في غياب دعم عمومي له . كما ان هذا الارتفاع يسير بشكل متعاكس مع ضعف القدرة الشرائية للمواطن .
6- استحواذ حضارة الانترنيت ووسائل الإعلام الحديثة الغنية والقوية بمواردها وتأثيرها على الاقتصاد الثقافي والصناعة الإبداعية مما أدى إلى تدهور تجارة إنتاج وتأليف واستهلاك الكتاب
إن الإحاطة بأزمة الكتاب مستعصية على التناول السريع وتستلزم تضافر جهود كل الأطر والفعاليات الوطنية من المثقفين والسياسيين والكتاب ورجال التربية وأصحاب رؤوس الأموال الوطنية ولفت الأنظار إلى المخاطر التي تهدد وجودنا الحضاري و الثقافي إن لم نسارع إلى وضع رؤية إستراتيجية لتشجيع وإنماء ثقافة الكتاب وجعله في صلب المشروع التنموي الجديد .
ذ: محمد بادرة