عبدالله بن عيسى
عند كل دخول اجتماعي ومدرسي يعود السؤال القديم في ثوب جديد… من يخدم من؟ هل تخدم السياسة المدرسة أم تُستَخدم المدرسة لتغذية خزائن السياسة؟
هذه السنة تبدو الكفّة أكثر ميلًا من أي وقت مضى لصالح “الدخول السياسي” الذي يسبق انتخابات 2026 ويتمدّد على حساب الدخول المدرسي، مستفيدًا من هشاشة آلاف الأسر تحت ضغط الغلاء ومن حاجتها الطبيعية إلى الكتب والدفاتر والحقائب.
في هذه اللحظة الرمادية يصبح الإحسان قابلًا للتأويل… قد يكون فعلًا تضامنيًا نبيلاً يخفّف الكلفة عن الفئات محدودة الدخل، وقد يُحَوَّل إلى استثمار انتخابي قصير النفس يُلوّث الثقة ويشوّه معنى المواطنة. التجارب المحلية في مدنٍ كثيرة، ومنها تزنيت، قدّمت في السنوات الأخيرة صورًا متكررة لما يحدث حين يختلط العام بالخاص.
منتخبون يدخلون المؤسسات التعليمية بصفات سياسية لا إدارية، توزيعات تُلتقط لها الصور تحت ألوان بعينها، لوائح مستفيدين تُنسج على معيار الولاء بدل الحاجة، وعمليات “توثيق” تُجمَع فيها أرقام هواتف الأسر لتُستدعى لاحقًا ساعة الحشد. ليست المشكلة في الدعم الاجتماعي ذاته، بل في شرطه الضمني ورسائله المضمرة… خذ اليوم… وتذكّر الغد.
هذا، والفصل بين الاجتماعي والسياسي ليس ترفًا بل قاعدة أخلاقية وقانونية لحماية المدرسة باعتبارها فضاء عموميًا محايدًا. حين يُرفع شعارٌ حزبي داخل قسم أو فناء، وحين تُلتقط صور الأطفال في مشهد دعائي، وحين يتحوّل التوزيع إلى مسرح استعراض، نكون قد عبرنا الخط الأحمر الذي يجرّد التضامن من معناه ويُقنع الناشئة بأن الحقّ لا يُنال إلا بثمن الولاء.
أخطر من ذلك أن هذا السلوك يغرس لدى الأسر شعورًا بالابتزاز الناعم… إدراك بأن الطريق الأقصر إلى الاستفادة يمرّ عبر الانتماء أو المجاملة، لا عبر معيار اجتماعي شفاف.
ومع اقتراب موعد التشريعيات المقبلة، تصبح كل حقيبةٍ أو دفترٍ أو قسيمة شراء نقطةً في رصيدٍ يُراد قبضه لاحقًا في صندوق الاقتراع، وتتعاظم شهية البعض إلى تحويل ضيق العيش نفسه إلى منصة تعبئة.
السنة الحالية حساسة لسببين متلازمين… من جهة، ضغط أسعار غير مسبوق على اللوازم المدرسية يرفع قابلية الأسر للقبول بأي يدٍ ممدودة؛ ومن جهة ثانية، زمنٌ انتخابي قصير يجعل كل نشاط اجتماعي قابلًا للقراءة السياسية.
لذلك فإن المطلوب،قبل أي وقتٍ مضى، يقظة استثنائية تحفظ توازن المعادلة… نعم للدعم، لا للتسييس؛ نعم للشراكات المؤسسية النظيفة، لا لاختطاف المدرسة. يمكن تحقيق ذلك ببداهة بسيطة… أي نشاطٍ اجتماعي قريب من المؤسسة التعليمية يجب أن يلتزم شرط الحياد الشكلي والفعلي؛ لا شعارات ولا ألوان ولا تصوير دعائي، وتمويلٌ مُصرَّح به ومعاييرُ استهدافٍ منشورة مسبقًا تستند إلى الدخل والوضعية الاجتماعية والهشاشة التربوية، لا إلى الانتماء أو العاطفة.
وحين تتوفّر هذه الشروط، يصبح حضور المنتخبين، إن لزم، حضورًا مؤسساتيًا صامتًا لا يُقايض ولا يلمّع، ويصير لذكر الجهة الممولة معنى الشفافية لا معنى الدعاية.
في المقابل، تقع على السلطات التربوية والمحلية مسؤولية الوقاية قبل المعالجة. المطلوب ليس مطاردة الصور بعد نشرها، بل تثبيت قواعد واضحة مسبقًا تُبلَّغ لجميع المديرين والجمعيات والفاعلين… الترخيص المسبق لأي توزيع داخل أو بمحاذاة المؤسسات؛ حماية خصوصية التلاميذ ومنع تصويرهم لأغراض غير تربوية؛ توجيه الأنشطة الاجتماعية نحو فضاءاتٍ محايدة كدور الشباب أو مقرات الجمعيات؛ وإتاحة قناة ميسّرة لتلقي التبليغات مع آجال ردّ محددة، بما يرسّخ الانطباع بأن حياد المدرسة ليس شعارًا بل التزامًا يوميًا. ومن حقّ المواطن أن يسأل من يمول؟ ولماذا اختيرت هذه الفئة دون غيرها؟ وأين تُنشر المعايير؟ وأن يرفض، بهدوء وثقة، أي محاولة تصوير دعائي تُقحِمه أو تقحم أبناءه في مشهدٍ لا علاقة له بكرامتهم.
ليس الهدف من هذا الكلام تعميم الاتهام أو تخوين المبادرات الخيّرة التي تعمل بصمت، فكم من فاعلين وجمعياتٍ صرفت من جيوب أعضائها دون أن تلتقط صورة واحدة، وكم من دعمٍ وُزع بمعايير عادلة لم يُسأل صاحبه عن بطاقة انتماء.
المقصود هو تسمية الخلل لحماية الأصل النبيل… أن يبقى التضامن تضامنًا، وأن تبقى المدرسة مدرسةً. الإحسان الحقيقي لا يحتاج ميكروفونًا ولا رايةً حزبية، بل يحتاج عدالة في الاختيار واحترامًا لخصوصية الناس وكرامتهم. وحين يتوافر هذا الشرط، تنكسر الحلقة التي تجعل الفقير رهينةً لموسم الصور، ويتحوّل الدعم من رشوة معنوية إلى حق اجتماعي زكّته معايير واضحة ودقّقه رأيٌ عامٌ يقظ.
تجربة السنوات الماضية تسعفنا بالخلاصة البسيطة… كلما اختلطت الألوان بالحقيبة، تشوّهت الرسالة وضاع المستفيد الحقيقي؛ وكلما اشتدت شفافية المعايير وابتعدت الكاميرات، تحسّنت ثقة الناس في مؤسساتهم وفي معنى الانتخابات ذاتها. لذلك، إن كان هذا الموسم استثناءً في اندفاعة السياسي، فليكن استثناءً في المراقبة والتتبع أيضًا. ليس المطلوب معجزة ولا مواجهة، بل قواعد لعبٍ عادلة تُطبَّق على الجميع بلا تحايل، وإعلامٌ محلي يواكب بمهنيته، ومجتمعٌ مدني يراقب دون تشهير، ومدرسةٌ لا تفتح أبوابها إلا للعلم أو للدعم الذي يحترم حرمتها. عندها فقط يمكن أن يستعيد الدخول المدرسي اسمه ومعناه، وأن تستعيد السياسة احترامها حين تنضبط لأخلاقيات المجال العام، فيربح المجتمع كله… تلميذٌ يدخل فصله مطمئنًا، وأسرةٌ تشعر بأن حقها لا يُشترى، وفاعلٌ عموميّ يَقبل المساءلة لأن قواعد اللعبة واضحة منذ البداية.
التعاليق (0)