بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
يشهد المغرب منذ سنوات توسعاً لافتاً في عدد الجمعيات المدنية على امتداد التراب الوطني، حيث باتت مختلف الأحياء والمناطق القروية والحضرية تعجّ بتنظيمات تتخذ لنفسها شعارات التنمية والحقوق والمواطنة. غير أنّ هذا التوسع الكمي، على أهميته، يطرح سؤالاً محورياً حول مدى قدرته على التحول إلى قوة اقتراح وتأثير، وإلى رافعة فعلية للتنمية والدمقرطة، بعيداً عن الطابع الشكلي أو المناسباتي.
فالواقع العملي يُظهر بوضوح أن المشهد الجمعوي في المغرب يتأرجح بين نموذجين: نماذج جادة تشتغل وفق رؤية واضحة ومنهجية مؤسساتية، وأخرى تعاني من هشاشة بنيوية تجعلها عاجزة عن الاضطلاع بأدوارها الأساسية. ولئن كان عدد الجمعيات مؤشراً على حيوية المجتمع، فإنه لا يمكن اعتباره معياراً لنجاعته، لأن قوة الفعل المدني لا تُقاس بعدد التنظيمات، بل بقدرتها على التأثير المستدام وتقديم إجابات ملموسة لانتظارات المواطنين.
في هذا السياق، تظهر مجموعة من الاختلالات التي تساهم في تشتيت الجهد الجمعوي وإضعاف أثره. فمنها الجمعيات قصيرة العمر التي تُؤسَّس بنية حسنة لكنها تفتقر إلى رؤية واضحة أو موارد مستقرة. ومنها جمعيات ذات طابع مصلحي تُستثمر لغايات شخصية أو انتخابية، وقد تُبنى أحياناً على “المقاس” لخدمة فاعلين بعينهم. وهناك أيضاً جمعيات استرزاق تحوّل الدعم العمومي إلى مصدر دخل ثابت، وجمعيات عائلية تُدار بمنطق القرابة لا بمنطق الشراكة والمسؤولية. وتتجاور معها جمعيات موسمية أو مهرجانية لا يتجاوز دورها تنظيم أنشطة للاستهلاك الظرفي دون أثر حقيقي، فضلاً عن جمعيات تقدم تكوينات أو شهادات بلا مضمون، أو تشتغل بالحماس دون أي تأطير منهجي.
وتتعمق هذه الإشكالات مع استمرار التداخل غير السليم بين الفعل الجمعوي والمجال السياسي، خاصة خلال الاستحقاقات الانتخابية، حيث تُستعمل بعض الجمعيات كأدوات لاستقطاب الأصوات عبر توزيع مساعدات ظرفية أو إطلاق مبادرات لا هدف لها سوى خدمة الحملات الانتخابية. وهذه الممارسات لا تمس فقط بمصداقية الفعل الجمعوي، بل تُضعف ثقة المواطن في إمكانية اعتبار المجتمع المدني شريكاً حقيقياً في التنمية.
ورغم كل هذه الاختلالات، يظل المشهد متضمناً لعدد من التجارب الرصينة التي تؤكد أن العمل الجمعوي الجاد قادر على تقديم إضافة نوعية. فهناك جمعيات تشتغل وفق منهجية احترافية في مجالات الدبلوماسية الموازية، والتنمية المستدامة، والحقوق والحريات، والطفولة، والمرأة، والحماية الاجتماعية، وتأطير الشباب. جمعيات تُقدّر معنى الالتزام، وتشتغل بهدوء، وتنجز برامج ذات أثر ملموس دون أن تجعل من الظهور الإعلامي غاية أو من التمويل شرطاً للاستمرارية. وهذه النماذج تشكل قيمة مضافة للمشهد المدني، وتبرهن على أن الجمعيات، حين تتوفر لها المصداقية والكفاءة والاستقلالية، يمكن أن تلعب دوراً محورياً في دعم السياسات العمومية ومراقبتها واقتراح البدائل.
ولكي يتعزز حضور هذا النموذج ويغدو قاعدة لا استثناء، يحتاج العمل الجمعوي الجاد إلى جملة من الشروط الموضوعية. من بينها تعزيز استقلاليته عن التجاذبات السياسية، وتوفير دعم مؤسساتي مستقر وغير مشروط، وإرساء منظومة تكوين مستمرة لفائدة الفاعلين الجمعويين، فضلاً عن تشجيع الشراكات الوطنية والدولية، وتعميم الرقمنة على مستوى التدبير والتواصل، واعتماد آليات تقييم ومساءلة واضحة، وتشجيع انخراط الكفاءات الشابة. كما يظل من الضروري ترسيخ ثقافة التطوع باعتبارها الركيزة الأخلاقية الأولى للعمل المدني.
إن المجتمع المدني المغربي أمام محطة مفصلية تتطلب منه الانتقال من منطق الكثرة إلى منطق الفعالية، ومن الدينامية الشكلية إلى الأثر الملموس. وتحقيق هذا الانتقال يقتضي قبل كل شيء تعزيز قيم الصدق في النية والمنهج، واحترام ذكاء المواطن، والالتزام بالعمل وفق رؤية مؤسساتية واضحة. حينها فقط يمكن للجمعيات أن تستعيد مكانتها كفاعل تنموي وحقوقي أساسي، وأن تساهم بفعالية في بناء مجتمع أكثر عدلاً، وأكثر مشاركة، وأكثر وعياً بمسؤولياته.
