التماسيح والعفاريت لا توجد في كل مكان

Default thumbnail كُتّاب وآراء

«أتقبل بقلب مثقل بالحزن إدانتي ودخولي إلى السجن، فلا أحد فوق القانون»… كان هذا آخر تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت، قبل أن يدخل إلى الزنزانة في سجن الرملة، لقضاء عقوبة الحبس 19 شهرا بسبب إدانته بتلقي رشاوى بقيمة 14 ألف أورو عندما كان عمدة لمدينة القدس، قبل أن يصير رئيسا للوزراء بين عامي 2006 و2009.

لا يدخل كل يوم رئيس وزراء إلى السجن، لهذا احتل أولمرت هذا الأسبوع واجهة الصحف وشاشات التلفزة وجل مواقع الأخبار حول العالم. ولأن إسرائيل لا تجعل حدثا يمر دون أن تستفيد منه، حتى وإن كان في حجم فضيحة فساد رئيس وزراء، فإن إعلامها قدم دخول أولمرت إلى السجن عنوانا على ديمقراطية إسرائيل وحكم القانون فيها، واستقلالية السلطة القضائية التي تجعل زعيما سياسيا ورئيس وزراء سابقا يدخل إلى السجن، مثله مثل أي مواطن يخرق القانون.

إسرائيل بلد عنصري، وقوة محتلة، هكذا ننظر إلى إسرائيل في المغرب وعموم العالم العربي والإسلامي، وهكذا ينظر إليها الأحرار في العالم، على قلتهم، لكن يجب أن نتعلم من أعدائنا كيف نبني قوة الدول وحكم المؤسسات والفصل بين السلطات.. ألا نردد في الأثر النبوي: «الحكمة ضالة المؤمن».

لنتصور السيناريو المعتاد في العالم العربي تجاه فساد السياسيين، وتلاعب رجال السلطة بالقانون، وهروب التقنوقراط من مبدأ المساءلة والعقاب. عندما تنفجر أي فضيحة من فضائح السياسيين أو الوزراء أو الجنرالات أو عمداء المدن أو كبار المدراء في آلة الدولة.. ماذا يحدث؟ يتحرك المتهم بكل ما في يده من مال أو سلطة أو نفوذ أو علاقات أو حصانة… فيعمد، أولا، إلى الكذب ونفي التهم الموجهة إليه جملة وتفصيلا دون أن يرف له جفن، حتى لو نُشرت الوثائق والأدلة التي تدينه، ثم يعمد، ثانيا، إلى تنظيم حملة إعلامية مضادة للجهة التي فضحت فساده أو اقتربت من حديقته الخلفية، فيسيس الموضوع لإخراجه من الطابع الجنائي إلى الطابع السياسي، ويصور فاضحي الفساد (أكانوا صحافيين أو حقوقيين أو جمعيات مدنية) بأنهم خصوم يستهدفونه لاعتبارات سياسية أو إيديولوجية أو مصلحية، أو خدمة لأجندة خارجية، ثم يتحرك السياسي الفاسد والتقنوقراطي المتهم سريعا لمنع القضاء من فتح تحقيق جنائي في الملف، باعتبار أن الفضيحة ما هي إلا مناورة سياسية ضد صاحبنا. وإذا فشل في طمس معالم الجريمة، فإنه يعمد إلى إدخال جهات أخرى في السلطة أكبر منه، وتصوير فضيحته على أنها مؤامرة لا تستهدف السياسي الفاسد أو التقنوقراطي المرتشي، بل هي مؤامرة أكبر تستهدف صورة النظام وتسئ لمن وضعهما في موقعهما ومن يحميهما، وهكذا يخرج الملف من الطابع القانوني إلى ساحة الجدال السياسي.. هنا تنطلق عملية خلط الأوراق، ويبدأ التكييف العكسي للملف، ويصبح فاضح الفساد متهما، والمدافع عن الحقيقة مجرما، والشاهد متآمرا، ويصبح السؤال الأخطر هو: من سرب الوثائق التي تدين المسؤول؟ ومن كشف سر الجريمة؟ ومن عبث بأسرار الدولة؟ أما سؤال: من مد يده إلى المال العام؟ وكيف اعتدى على حرمة القانون في غفلة من الجميع؟ فيصبح سؤالا غير ذي موضوع.

ولأن السلطة في بلاد يعرب تفتح وتغلق ملفات القضاء مثلما تفتح وتغلق دولاب ملابسها، ولأن القضاء غير مستقل، وجل القضاة يعتبرون نفسهم موظفين لا مؤتمنين على إقامة العدل بين الناس بالميزان، فإن حزب الفساد في العالم العربي يظل في مأمن من دخول السجن، وحتى عندما يتحرك الرأي العام ويغضب الناس من فائض الفساد المنشور في الإعلام، فإن السياسي الفاسد والتقنوقراطي الملوث ينحنيان للعاصفة، وربما يترقيان في سلم المسؤولية لإبعاد شبهة المساءلة عنهما، فقط لأنهما، بذكاء وخبث، يربطان فسادهما بصورة الدولة، وجرائمهما بسمعة من يحميهما، حتى وإن لم يكن شريكا معهما ولا مطلعا على مطبخهما الداخلي، فالقانون في بلاد العرب آلة يمكن أن نعزف عليها اللحن ونقيضه.

سجن وزير أول في بلد عنوان كبير على تساوي المواطنين أمام القضاء، ودليل على نظافة النيابة العامة والشرطة القضائية التي باشرت التحقيقات، ومؤشر كبير على فصل السلطات في نظام عدالة عمياء لا تميز بين كبير وصغير.. بين قوي وضعيف. بلاد تدخل رئيس وزرائها إلى السجن ليست في وارد أن تنهزم أمام دول غارقة في الفساد، وبعيدة عن حكم القانون، وبينها وبين القضاء المستقل سور صيني كبير
توفيق بوعشرين

التعاليق (0)

التعاليق مغلقة.