الباحث أحمد بوزيد يكتب عن: حميد إنرزاف..بلبل سوس المغرد.. الكنز والخريطة.

مجتمع

 [مقطع من قراءة تقديمية لكتاب الباحث الراحل إبراهيم أوحساين المعنون “حميد إنرزاف: بلبل سوس المغرد”].

إن النصوص الموازية في عمل إبراهيم أوحسين، لم تقدم الكتابة نقيضا للشفوية، إذ قوضت الثنائية القائمة على التراتبية المنحدرة من السردية الكولونيالية والقائمة على الفصل، لتجعل من الكتابة حدا متخلقا في رحم الشفوية، ولتجعل من الكتابة صوانا، يصونها من المحو، ولعل ذلك ما نعثر عليه في مواضع مختلفة من المقدمة، التي تبسط جماليات الشعر الشفوي والغنائي، وهي تنظر إليه من مرايا “استعارة الكنز” لتتحدث عن جواهره ومعادنه النفيسة، فما الذي تنطوي عليه هذه الاستعارة؟

إنها تقدم الكتابة بمثابة صندوق أو قدر طيني أو حاوية ووعاء لحفظ هذه الجواهر النفيسة، إنها وسيط حمائي، لكننا لا ينبغي أن نطمئن لهذا التأويل الاستعاري الذي ترجه دينامية الخيال التي بنينة رؤية المصاحب النصي؛ ففي نص مواز عنوانه “عتبة” يضاعف إبراهيم أوحساين معنى هذا الرمز حد الفيض، في استعادة دور الكتابة عند أمم سابقة، قائلا “فلولا بعض النابهين، ممن أرخوا للحضارات القديمة لما تمكنت الأجيال اللاحقة من العثور على شواهد مادية تمكنها من استخلاص ماضي الأولين والغابرين” فهل يستقيم عدها قدرا حمائيا لخزن الكنز؟

 النفاذ إلى الجملة السالفة، يجعل من الكتابة خريطة تفضي إذا عثرت على قارئ إلى الكنز، ولعل إيحاءات الكنز في المتخيل من ارتقاء فجائي خارج مسارات الهرمية الاجتماعية بتجاوز قيدها وحتمياتها؛ وهي في حالتنا أوضاع التهميش الثقافي والدونية والتابع، جلية في معجم العتبة، أبرزها ما ورد في السالف ذكره من عبارة “الاستخلاص” المرتبطة بالسياق الزراعي والعمل اليدوي على استخلاص زيت النواة، لكنها ترتبط بالجبايات؛ ففي تقديمه لأشباه ونظائر من ثقافات أخرى عن عمل التدوين في قوله ” ما اختزنته من ألغاز وأسرار، وكذلك عما حققته من بذخ وترف عمرانيين” بفضل التأريخ والتدوين؛ تتبدى عبارات البذخ والترف والاختزان، بما هي دوال لها صلة دلالية بهذا المتخيل عن الكنوز.

لقد عثر إبراهيم أوحسين على الكنز والكتاب لا يعدو سوى أن يكون خريطة تفضي إليه، تدل عليه، فالخريطة كشف للمسالك، والتدوين إشارات ودلائل، للعودة إلى مرجع معلوم، هو الكنز” موسيقى حميد إنرزاف”

الكتابة خريطة، والخرائطي إبراهيم أوحسين لم يكن وهو يقيد خريطة الكنز، مطمئنا، بل كانت الهواجس ترج طمأنينته، أذكر منها هواجس ثلاثة

الهاجس النفسي: يتمثل في التوجس من فقدان الذاكرة، فالذاكرة هوية الشعوب، طفولتها، مناعتها ضد الاغتراب، الذاكرة هي الحبل السري الذي يصل كينونة الشعوب بالأرحام الأولى، بالينابيع، التي تلتمس منها علامات في خطوها، والنسيان، هو انقطاع ونأي، الذاكرة جذور والنسيان ريح…

أليس النسيان، هو أقسى عقوبة،  وليس أزواك، أليس الأقسى في أزواك؟ هو النسيان الذي يليه، فحتى لو عاد المحكوم عليه بأزواك إلى فضاء الألفة، وكسر قاعدة البعد في أزواك ما انفلت من حكم النسيان الجماعي، الذي يواجه بها “ماتكيت أوركسنح” من أهله وعشيرته ودمه…

الهاجس الثاني: هاجس القراءة:

وهو هاجس التلقي، والخوف من أن لا تعثر الخريطة على قارئها، ومن يفك مغاليق الحروف، هاجس تقني في صلة الكاتب بحرف الكتابة، جعله يختار الحروف العربية لكتابة الأمازيغية، قائلا “مراعين الكتابة بالحرف العربي، بغية الوصول لأكبر عدد من القراء مشرقا ومغربا”

تتقدم الذات في هذا المقبوس، بصيغة الجمع، ومعها من كتبوا الأمازيغية بالعربية في الألواح وفي التقييدات والأراجيز والمخطوطات، أي تعلن نسبها الرمزي إلى شكل في الكتابة، وإلى تقدير، أملته قراءات الذات وشوقها الحار لأن تحظى الخريطة بحواس تفك أسرارها، أي أن تنساب القراءة بما يفضي بحامل الخريطة إلى الكنز…

الهاجس الثالث: هاجس حضاري، يتمثل في الإسهام، في البناء الحضاري للهوية الثقافية والثقافة الوطنية، وهو ما تم تجسيده باستعارة خلدونية ذات امتدادات إسلامية متصلة بوظيفة الإنسان أي إعمار الأرض وعد الحضارة عمرانا وهي ذات امتدادات هايديغيرية، مدارها عد اللغة، بما هي عماد الثقافة، بيتا ومسكنا رمزيا للوجود. وهي استعارة كونية منتثرة في الثقافات، كقولنا عن الأسر وتخير الحبيب “أزرو نتمازيرت أس يبنو يان” ويقصدون البيت، تيكمي، الدال الرمزي المتصل بالأنثوي وبالجوهر النفسي الأمومي حيث يتناهى من الكلمة اسم الأم، هذا البعد الذي عبر عنها الخرائطي أوحسين بكشف النقاب عن ألغاز وأسرار الحضارة في عتبة النص، حيث تقدم بوصفها أنثى منطوية على أسرار تقتضي هتك ما يلفها من حجب….تلك خريطتها.

لنتأمل على ضوء هذه الإضاءات الكنز، أثر حميد إنرزاف، كما حدد الباحث حدوده وإحداثياته هذه الخريطة.

أشير هنا إلى ملمحين لهذه الإحداثيات، يتعلق الأول بموقع التجربة في مسار الموسيقى الأمازيغية في سوس، وهو عمل تحقيبي، يتنزل ضمن تاريخ الفن، وتاريخ الأدب، مادامت العلامة موضوع النظر هي الشعر، مهتديا في ذلك بمحاوراته مع الأستاذ سعيد جليل وإسهاماته في مجال سوسيولوجيا الروايس وخبرته العلمية التي نهضت على المعايشة بما ترمز إليه من حميمية العلاقة مع تيروسا وأعلامها.

 هذه الرؤية تأخذ بالصيرورة، وتستدمج هذا المفهوم في التفكير في زمن شعري ممتد، هو زمن الشعر الأمازيغي، في تجاربه المتعددة والمختلفة، وفي رحمه المتصل بالشوق وبالماء الرمزي، ماء المعنى كما في دال أمارك الذي ينفتح على سياقات طبيعية وسيرورة دينامية تبادلية بين الخيال والطبيعة، أهمها تاركا. من هذا الدال ومن رحم أحواش، تستأنف القراءة خطوها، عبر استدماج مفهوم الصيرورة، كما سلف،  ينطلق أوحسين من الرحم الأول للروايس أحواش، قبل الانتقال من غنائية جماعية “أحواش” إلى غنائية ذاتية “الروايس”، مقدما أعلامها، متأملا قديمها وحديثها، باعتماد تحقيب جيلي، هو نفسه التحقيب الذي يعتمده الباحث سعيد جليل في أعماله.

في هذا المستوى من تحديد الاحداثيات الفضائية لموقع الكنز، يعد أوحساين المجموعات الغنائية العصرية، ومنها انرزاف، مجموعة منحدرة من هذا التاريخ الموسيقي، معتمدا مفهومين، مفهوم التحديث، الذي تأمله في ضوء مفهوم النوع ومقتضياته المتصلة بالتطور، والتي لازمت هذا المفهوم تصوريا، في ترحله الرمزي من منابته في البيولوجيا إلى مهادات الإنسانيات، بعدها تجربة تطوير، لها محايثها الاجتماعي الذي بسطه في معرض تسريد سيرة حميد إنرزاف، والهجرة القروية إلى الفضاءت الحضرية بسبب الجفاف والجذب.

باسطا أيضا التطور بالقراءة المهتدية بضوء مفهوم الفن الفطري، ما يسمى بالفن الرعوي في بعض الثقافات، مستحضرا تجربة من المغرب المتعدد، ومن أحياز التشكيل، تجربة الشعيبية طلال.

أما الملمح الثاني لتحديد الإحداثيات، إحداثيات الكنز الذي عليه تقييدات الخريطة/ الكتاب، فهو تحديد مفهوم الفن كما يفكر فيه أوحساين، ومواضعه كثيرة، غير أنهها جلية مكثفة في  عتبة الإهداء، كما ورد في هذا المقبوس منها:

“إلى “لودفيغ فان بيتهوفن الذي أدرك باكرا أن العمل باليد يجعلك عاملا، والعمل باليد والعقل يجعلك صانعا، والعمل باليد والعقل والقلب يجعلك فنانا.”

فالفن بذلك، هو ما يزاوج فيه بين حذق اليد وتخطيطات العقل وعنفوان القلب، العقل والقلب، أي ما يمكن تنزيله في مقولة جامعة هي الذهن حد تعبير محمد مفتاح.

 لكلمة الفن عند الكاتب دلالة مكانية، إنه حاصل المزاوجة بين التعقل والتخيل، حاصل علاقة التساكن بين ملكتين، من الأولى الترسيمات والمسارات والتخطيط والانسجام والوحدة والتنامي وفق منطق معقول، ومن الثانية الإشراق والخلق والشط والعنفوان والدينامية والانفلات والمروق…وإذا كان العقل يعنى بالاستلزامات والاستدلال، فإن الخيال هو الجامع بين ما يبدو في الظاهر متباعدا، والفن هو منطقة اللقاء بين حذق اليد والذهن بملكتيه التعقل والتخيل.

إن الفن عند إبراهيم أوحسين وفي معرض تحديده لإحداثيات الكنز، فضاء التناغم، إنه المكان، ولكنه يرتقى إلى مكانة، والفنان هو من يبلغ تلك المكانة باستحقاق نبل الفن وعمقه، كما في الإلماع الصوفي للشيخ الأكبر في باب لا يعول عليه، لما كتب قبل قرون، أن المكان الذي لا يصير مكانة لا يعول عليه.

وهذا ما ينكشف في خاتمة الخريطة، في حديثه عن دواعي الكتابة، من نبل حميد إنرزاف ، وتلبية الرجل دعوة الناس، بقلب كبير ومحبة فائضة، وإسهاماته في الملتقيات الخيرية والعمل التطوعي وخصلة الإيثار التي طبعت مساره… وكلها مراقي المرء، ومعراجه من المكان المادي إلى مقام المكانة.