آسفي المنكوبة أسقطها النسيان لا الأمطار

مجتمع

وضعتُ في كفة ميزان العمران، أمطارا لم تبلغ 37 ملم، وفي الكفة الأخرى وضعتُ خسائر مدينة آسفي في الأرواح وفي الأرزاق وفي الممتلكات…لم أفهم ما الذي وقع، وعقلي توقف عن التفكير لأنه عاجز عن استيعاب ما حدث.

لكن حين وضعتُ تاريخ وقيمة المدينة في ميزان النسيان، بدأتِ الأفكار تنساب من أعماق الدماغ، وبدأ عقلي يستوعب ما الذي حدث لآسفي.

الأمطار الأخيرة، لم تكن وبالا على المدينة. وغضب الطبيعة، لم يكن يحمل حقدا على آسفي، بل إنه فقط أعلن عن نقطة نظام، في وجه كل من تحمل مسؤولية هذه المدينة التي أعياها النسيان، وأتعبها التجاهل والإهمال.

الأمطار مهما بلغ طوفانها، لا لسان لها. لكن أمطار آسفي لها لسان يصيح بصوت عال، مستنكرا غياب حفاوة الاستقبال، معاتبا مدينة أسفي، لأنها لم توفر لها طريقا تمر منه كزائر مرغوب فيه، وضيف خفيف الظل، يحظى بحفاوة الاستقبال.

لا وادي “الشَّعْبَة” كان مستعدا لاستقبال أمطار الخير، ولا قنوات الصرف الصحي، كانت في حالة نفسية جيدة لاحتضان هذا الزائر بعد طول غياب. غضبت الأمطار، فكانت الكارثة. رغم أنها أمطار قليلة، لكن غضبها كان كبيرا.

مدينة أسفي، تحتاج لمن يتحدث بلسانها، وليس بلسان الأمطار. النخب المسفيوية تخلت عنها، وأعيان المدينة لم تُرافع عنها في العاصمة، كما أنها لم تُرابط من أجلها في الرباط. وباقي أصحاب الحقائب الوزارية، لا توجد آسفي في خريطة انشغالاتهم. أما الحكومة، فلا وجود لآسفي في مذكرتها الأسبوعية، ولا الشهرية، ولا السنوية ولا حتى في مشاريع العقود القادمة.

إنه نسيان النسيان، والنسيان الذي ما بعده نسيان.

المجلس الجماعي والسلطات المحلية، تركت مهامها، وأهملت مسؤولياتها، وهو ما أثار غضب الأمطار، على قلتها، فحصل ما حصل…وفيات وأموات وجرحى وصدمة نفسية. أرزاق مفقودة ومنازل مهدمة وقلوب محطمة…هكذا يمكن وصف مدينة منكوبة بفعل أمطار قليلة.

الحكومة وأصحاب الحقائب الوزارية، لم يفكروا في إعطاء مدينة عريقة بحضارتها وعظيمة بتاريخها، نصيبها من التنمية التي تشهدها مختلف مناطق البلاد.

لقد كان حظك سيئا يا مدينة أسفي…الأعيان أهملوكِ…والمنتخبون فرطوا فيكِ…والحكومة تنكرت لحقكِ…فلم يبق لكِ، سوى هذه الأمطار التي فضحت كل شيء، ولم يعد بإمكانكِ سوى انتظار صيحة الضمير، لعل تاريخكِ الكبير، وحضارتكِ العظيمة، كلها تشفع لكِ، في أن يكون المستقبل القريب، فيه علاج النسيان ودواء الإهمال.

لا نملك في هذه الحياة، أمام ما وقع لآسفي المنكوبة، سوى أن نتمسك بالأمل في مدينة الألم. ولا نملك سوى أن نترحم على الأموات ونحسبهم عند الله شهداء، لعل تضحياتهم بحياتهم تُوقِظ الضمائر الميتة، وتُخرج المدينة من غياهب النسيان، كما أخرجت القافلة يوسف من غياهب الجب.

أنقذ الله يوسف من ظلمات البئر، وجعله على خزائن مصر. لذلك نتشبث بالأمل ونتمسك بالتفاؤل، ونسأل الله أن يُخرج مدينة آسفي من ظلمات النسيان، ويجعلها في مصاف مدن المملكة الشريفة، لتسترجع المدينة رونقها وألقها وأناقتها، كما كانت دوما عبر التاريخ.
ويكفي أن نذكر بأن آسفي كانت محج كل حجاج دول الساحل وشمال إفريقيا، يجتمعون في المدينة طلبا للسلام والأمان من مدينة السلام والحضارة والتاريخ، قبل أن ينطلقوا نحو الديار المقدسة. آنذاك كانت أسفي محطة أساسية لكل حجاج المنطقة.

وضريح سيدي بومحمد صالح ما زال قائما وشاهدا على عظمة أسفي في هذه الحقبة من التاريخ. وبعض أبنائه كانوا في خدمة الحجيج على طول الطريق من آسفي حتى الحجاز. وأحد أبنائه مدفون في مصر، حيث كان يستقبل الحجاج وينفذ أوامر والده سيدي بومحمد صالح.

إذا كانت هذه هي آسفي….ألا تستحق واقعا أفضل من هذا؟ واهتماما أكبر من أي مدينة أخرى؟

ضرك يا آسفي في الإهمال وليس في الأمطار. من ماتوا ندعو لهم بالرحمة، ونأمل بأن تتحول أمطار الخير إلى سبب ينقل آسفي من مدينة منكوبة إلى مدينة تنظر للمستقبل بعين التفاؤل وروح الأمل. لكن ذلك يتطلب استيقاظ الضمير، والتحلي بالعقل وبحكمة الفضلاء، لتسترجع آسفي تاريخها وحضارتها وإشعاعها في منطقتها.

سعيد الغماز-كاتب وباحث