“في قلب كل ذرة قوة لو أمكن تحريرها لأحرقت بغداد.. إن أصغر جزء من المادة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ (الذرة)، يحتوي على طاقة كثيفة. وليس من الصحيح أنه لا يتجزأ مثلما ادعى علماء اليونان القدامى” هكذا تحدث جابر ابن حيان منذ القرن الثامن، وكأنه كلام عالِم ينتمي للقرن العشرين قرن اختراع القنبلة الذرية.
جابر بن حيان من علماء العرب المسلمين، برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة. ويعود له تأسيس وظهور علم الكيمياء التجريبي، حيث تمكن من استنتاج مجموعة من المعلومات حول الكيمياء، عن طريق التجارب والقراءة التي ساعدته على الوصول إلى العديد من الاكتشافات. وهو ما جعله يحصل على العديد من الألقاب والمسميات مثل أبو الكيمياء، وكيمياء جابر، وشيخ الكيميائيين. وصفه ابن خلدون بـ “إمام المدونين”، كما قال عنه أبو بكر الرازي في (سر الأسرار) “جابر من أعلام العرب، وأول رائد للكيمياء”.
برجوعنا إلى تاريخ تطور علم الكيمياء، نجد أن مرحلة ما قبل جابر بن حيان كانت مرتبطة بنوع من الخرافات في الحديث عن المكونات الكيميائية. ومع فلسفة أرسطو ظهرت نظرية تقول إن كل شيء في الكون يرجع إلى عنصر من العناصر الأربعة التالية: الهواء-الماء-النار والتربة، وهي النظرية التي جعلت علماء تلك العصور سواء في مصر أو الهند أو الصين أو اليونان، يبحثون عن مادة “إكسير الحياة” لإطالة الحياة والقضاء على الموت، وذلك بخلط المواد بعضها ببعض، وكانت تلك هي أولى خطوات الكيمياء. لكنها كانت نظريات فحسب وغير خاضعة للتجارب العلمية. جابر بن حيان، اعتبر أن أي نظرية في خلط المواد، لن تكون صحيحة إلا بخضوعها للتجارب ومعرفة نتائجها. بدأ جابر تجاربه العلمية بنظرية أرسطو حول المكونات الأربعة لكل شيء في العالم، لكن تجربته أوصلته إلى أنها نظرية خاطئة. بعد ذلك قام أبو الكمياء بخلط مادة الكبريت مع الزئبق على درجة حرارة معينة، فكانت النتيجة مادة صلبة كالحجر سماها “الزُّنْجُفُر”، فاستنتج العالِم، أن التجارب الكيميائية مرتبطة بكمية المواد المخلوطة ودرجة الحرارة التي تتم فيها عملية الخلط. وهو ما جعله يقول بأن درجة الحرارة في باطن الأرض يجب أن تكون جد مرتفعة لتتكون المعادن التي يستخرجها الإنسان من الأرض وعلى رأسها الذهب. هكذا بدأت أولى التقنيات العلمية في التجارب تظهر مع ابن حيان كالكم ودرجة الحرارة. تجارب جابر ابن حيان في الكمياء جعلت المؤرخين يعتبرون أن الحقبة اليونانية كانت حقبة وصف المواد، وحقبة العصر الإسلامي كانت حقبة التجريب لإعطاء البعد العلمي للنظريات.
ابن حيان هو أول من ابتكر سائل الذهب وسماه “الماء الملكي” وهو الابتكار الذي كان وراء الإكسيسوارات المشلولة بالذهب والتي تتزين بها النساء في وقتنا الحاضر. هذا الابتكار الكبير جعل جابر ابن حيان يتعرض لموجة من الإشاعات كسرقة الذهب واستعانته بالجن والسحر في مختبره لاستخراج الذهب، فكان ردُّه الشهير “صنعتُه بيدي وكان في عقلي من قبل”. في مختبره، ابتكر ابن حيان جهاز التقتير الذي أسماه “الإنبيق” وهو الجهاز الذي ساعده في باقي التجارب على غرار خلط الكبريت بالزئبق بنفس الكمية لإنتاج الفضة، وعندما نزيد من نسبة الكبريت قياسا لنسبة الزئبق نحصل على النحاس. هكذا اكتشف العالَم أهمية التجارب في الحقيقة العلمية، وهكذا تطورت علوم الكيمياء فأصبح العالَم يعرف أن مقياس الكميات المستعملة ودرجة الحرارة لها أهمية كبرى في نتيجة التجارب. وبهذا يكون جابر ابن حيان مؤسس العقلية التجريبية التي كانت وراء تطور العلوم الدقيقة.
يعد جابر ابن حيان من العلماء الأوائل الذين اهتموا بعلم الكيمياء، كما يُصنف بأنه من الرواد الذين حرصوا على المساهمة في تطور الكيمياء والعلوم التجريبية. لذلك يُشار إلى أن اسمه ارتبط مع المنهج التجريبي بسبب استخدامه لهذا المنهج في إعداد التجارب الكيميائية، فلم يتوقف عند المعلومات والأفكار والمؤلفات المرتبطة بالكيمياء القديمة، بل حرص على التجريب في مختبره الخاص، وتطبيق مجموعة من التجارب الكيميائية التي ساعدته على الوصول إلى الكثير من المركبات الكيميائية التي لم يعرفها العالم مسبقاً.
يعتبر جابر بن حيان أول من استخدم الكيمياء عمليا في التاريخ، وكانت كتبه في القرن الرابع عشر من أهم مصادر الدراسات الكيميائية، وأكثرها أثرا في قيادة الفكر العلمي شرقا وغربا، وقد انتقلت عدة مصطلحات لجابر إلى اللغات الأوروبية عن طريق ترجمتها إلى اللاتينية.
عرَّف ابن حيان الكيمياء في كتابه العلم الإلهي: “الكيمياء هو الفرع من العلوم الطبيعية الذي يبحث في خواص المعادن والمواد النباتية والحيوانية، وطُرُق توَلُّدها وكيفية اكتسابها خواص جديدة.” وهو تعريف يتناسب مع علم الكيمياء كما نعرفه في عصرنا الحالي.
اخترع جابر بن حيان بعض الحوامض وقام بتحضيرها، ومنها حمض الكبريتيك، وسماه “زيت الزاج”.
كما اخترع القلويات أو القواعد، وماء الفضة، وماء الذهب، وملح النُّشادر. وابتكر نظرية الميزان، وهي نظرية جديدة وهامة. فالميزان عند ابن حيان نوعان: الميزان الوزني يستخدمه لوزن كميات من مادة معينة، وميزان الطبائع أو الكيفيات يزن الطبائع التي يرتكز عليها جسم المادة كالحرارة واليُبوسة والبرودة.
نُسِب إليه ما يقرب من 3000 مخطوطة في علم الكونيات والموسيقى والطب والأحياء والكيمياء والهندسة والنحو وما وراء الطبيعة والمنطق والفلك.
بلغت أعماله في الكيمياء أهمية كبيرة، حتى أنها تُرجمت إلى اللاتينية، وانتشرت بين الكيميائيين على نطاق واسع في القرون الوسطى.
من مؤلفاته كتاب “الحديد” وكتاب “الفضة” وكتاب “الرصاص”، وهي كتب يُفصِّل فيها ابن حيان طريقة استخراج تلك المعادن من أصولها الأولى ويتحدث عن خصائصها ومكوناتها.
سعيد الغماز