كلنا نؤمن بأن الفكرة أهم من الاختراع، ولكننا قد نتناسى صاحب الفكرة ونحفظ اسم المخترع عن ظهر قلب. هذا ما وقع مع عباس بن فرناس صاحب فكرة الطيران، وبقي العالم يتذكر فقط أول رحلة طيران ناجحة في العالم. فمتى كانت أول رحلة طيران عرفتها البشرية؟ وعلى يد من كانت؟ وكيف كانت؟ وكيف تطور الطيران بعدها؟
أول محاولة طيران في تاريخ البشرية قام بها عباس ابن فرناس في القرن التاسع حيث استعمل طائرة مصنوعة من الخشب والحرير. وكانت محاولته في الطيران على مرتفع بالقرب من مدينة قرطبة الأندلسية أمام جمع من الناس. استغرقت فترة الطيران 10 دقائق لكنه أخفق في الهبوط على الأرض نظرا لعدم معرفته بدور الذيل في الهبوط. ورغم أن التجربة لم يُكتب لها النجاح الفعلي، إلا أن ابن فرناس كان صاحب الفكرة والاختراع.
بعد تجربة عباس ابن فرناس، جاءت أول رحلة طيران ناجحة في العالم. كان ذلك يوم 17 دجنبر 1903، من خلال قيام الأخوين -أورفيل- و-ويلبير- وقد عُرفا بالأخوين -رايت-، باختراع طائرة أشبه ما تكون بالطائرة الورقية والتحليق بها بنجاح فوق ولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية. تمكن الأخوان -رايت- وبمساعدة الميكانيكي -شارلي تايلور- من صنع محرك قوي وخفيف الوزن يعمل بالغازولين. بجناحين مغطيين بالقماش وهيكل من الخشب، صنع الأخوان رايت طائرة فلاير، وقاما بأول رحلة طيران ناجحة في التاريخ. طار الأخوان في ذلك اليوم أربع مرات متتالية. وقد استغرقت الرحلة الأولى 12 ثانية وقطعت أكثر من 36 مترا. وفي المرة الثانية استغرقت الرحلة 12 ثانية وقطعت مسافة 53 مترا. الرحلة الثالثة استغرقت 15 ثانية بمسافة 61 مترا. المرة الرابعة استغرقت الرحلة قرابة دقيقة واحدة بمسافة 259 مترا.
بدأ حلم الأخوين في ابتكار طريقة للطيران منذ الصغر حيث قام والدهما بإهدائهما لعبة على شكل طائرة حوامة (هليكوبتر) جعلتهما يحلمان بالطيران بشكل حقيقي. وقد تعلما من والدتهما الرياضيات والعلوم. واستمر الحلم مرافقا لهما رغم عملهما في صناعة الدراجات، حتى تمكنا من تحقيق ذلك الحلم. فكيف تطور الطيران بعد الأخوين -رايت-؟
مع بداية الحرب العالمية الأولى، بدأ انتاج الطائرات الحربية على نطاقٍ واسع وبأعداد كبيرة. وتسابقت الدول نحو التسلح الجوي واستُعملت حينها الطائرات للاستطلاع والقصف. بعد ذلك، بدأت أنظار المخترعين تتجه نحو تطوير الطائرة لتقطع مسافات طويلة. فتبلورت فكرة قطع المحيط الأطلسي بدون توقف. بعد العديد من الرحلات الفاشلة، وبعضها انتهى بوفاة صاحب التجربة، تمكن الطيار الأمريكي -تشارلز ليندبرغ- من عبر المحيط الأطلسي على متن طائرته دون توقف، وذلك سنة 1927. انطلق تشارلز من مدينة نيويورك قاصداً باريس دون توقف. دامت رحلته حوالي 30 ساعة وكانت محفوفة بالمخاطر، إذ أنه كان يجب أن يبقى مستيقظاً طوال الوقت. كان المحدد الرئيسي في نجاح التجربة، هو الوزن الإجمالي للطائرة وحملها الوقود الكافي لرحلة الطيران. فاضطر الطيار إلى الاستغناء عن المظلة والراديو، وهو ما زاد من خطورة الرحلة وجعلَها محفوفة بخطر الموت. وكل ذلك لكي يجلب معه كمية أكبر من الوقود، بل حتى وجبات أكله خلال الرحلة قام بتقليصها. بعد إتمام رحلته بنجاح حصل على العديد من الجوائز والألقاب وذاعت شهرته عبر أقطار العالم.
خلال الحرب العالمية الثانية، شهد مجال الطيران تطوراً كبيراً وصل إلى حد حسم الطائرة في نتيجة الحرب حين رمت إحدى الطائرات الأمريكية قنبلة ذرية على مدينتين في اليابان. استمر المخترعون في محاولاتهم تطوير الطائرات وابتكار أدوات جديدة. فعرف العالم اختراع الطائرة النفاثة التي تطير بشكل أسرع وأعلى ارتفاعا من بقية الطائرات التي تعمل بالمراوح حيث يصل ارتفاع طيرانها إلى أكثر من 10000 متر. بالإضافة إلى اختراع طائرات كهربائية تُستخدم فيها الكهرباء كأحد أنواع الوقود البديلة. في سنة 1949، حلقت في السماء أول طائرة تجارية نفاثة لنقل الركاب، أنتجتها شركة “دي هافيلاند” البريطانية.
ولا بد أن نذكر أنه خلال الحرب الباردة، قررت الدول العظمى التنافس لغزو الفضاء، ففي عام 1957 أطلق الاتحاد السوفياتي أول قمر صناعي الى الفضاء، وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بالمقابل بإرسال مهمة أبولو 11 لاستكشاف القمر عام 1969. قام رواد الفضاء بأخذ عينات من الصخور والتراب لفحصها على الأرض. مع أوائل سبعينيات القرن العشرين، ركزت مصانع الطائرات في الولايات المتحدة وأوروبا على صناعة طائرات النقل النفاثة الكبيرة. ويدخل في صناعتها الألمنيوم والفولاذ والتيتانيوم والعديد من المركّبات كالبوليمرات وغيرها. تتميز هذه المعادن بأنها صلبة ومقاومة للتآكل وخفيفة الوزن، ما يجعل الطائرة قادرة على حمل أوزان أكثر. ويستخدم الكيروزين كوقود للطائرات. تصل سرعة الطائرات النفاثة الحديثة في الوقت الحالي ما بين 680 الى 900 كم في الساعة. وقد تمت صناعة الطائرات الكهربائية مؤخراً والتي تستخدم الكهرباء كمصدر للطاقة.
هكذا كان مخاض فكرة ابن فرناس، وهكذا كانت ولادة اختراع الطائرة، فطموح الإنسان لا يتوقف، وهنا يكمن الفرق بين شعب يُنتج وشعب يستهلك.
سعيد الغماز