في راي فئة من المؤرخين ظهور التصوف في المشرق جاء كرد فعل ضد التفسخ الديني والاخلاقي وضد الاستبداد والظلم الاجتماعي والقهر السياسي كما في عهد الدولة الاموية ثم في عهد الدولة العباسية وفي راي فئة ثانية جاء التصوف بفعل تأثير الرهبنة المسيحية والافلاطونية الجديدة فاختار الصوفي ان ينعزل ويتزهد ويبتعد عن مباهج الحياة ثم قصد التعبد والتمعن في الكلمة الالهية مع الاقتناع بلباس الصوف والنزر القليل من الطعام لكن التصوف في المغرب كان له منحى مغايرا عما كان عليه في المشرق رغم وجود تأثيرات محدودة للتصوف المشرقي على التصوف المغربي واستشهد الاستاذ عبد العزيز بن عبد الله عن هذا التأثير المتبادل بين التصوفين المشرقي والمغربي في مظهرين اساسيين: اولهما انتشار طريقتين لكل من ابي الحسن الشاذلي الغماري وعلى ابن ميمون الفاسي وثانيهما انتشار مصنفات صوفية شرقية بالمغرب ومنها كتاب (الحكم العطائية) الذي صار الناس يحفظونه في المغرب عن ظهر قلب كما علق عليه العلماء وفقهاء الدين في شروح كثيرة كشروح ابن عباد وزروق ومحمد جسوس الفاسي والحراق والشيخ الطيب بن كيران ..اما عن القصائد الصوفية المغربية الصرفة فهي كثيرة ومتنوعة باللسانين العربي الفصيح واللهجي وباللسان الامازيغي الشلحي ومنها ارجوزة “حدائق الازهار في الزاوية” لليازغي و”المقياس” للوزير الغساني وديوان الحراق الذي نحا فيه منحى ابن الفارض وابن عربي اما عند اهل سوس فهناك مخطوط مشهور في التصوف والاخلاق عنوانه (لعيلم ن صوفييا ) للحاج الحسن بن مبارك البعقيلي التاموديزتي وترجمه المختار السوسي في المعسول ج19.
ان تاريخ الحركة الصوفية في المغرب هو جزء من تاريخنا العام الذي لا يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية فحسب وانما يشمل كذلك الجانب الثقافي والروحي على ان التصوف المغربي كان له كبير الاثر في توجيه وتلوين جميع مرافق الحياة حيث انتشرت شذراته ودرره في كل المصنفات والكتب التاريخية والثقافية والدينية حيث اخبار المتصوفة وحياة الزهاد وكل الحركات الصوفية التي قامت في المغرب تجدها منتشرة في كتب التاريخ والتراجم والمناقب والفهارس والرحلات بل وحتى في كتب الفقه مثل (شرح ميارة على المرشد ) و(معيار الونشريسي ).
يرى المؤرخون للحركة الصوفية في المغرب انها كانت نشيطة في القرى والبوادي اكثر منها في المدن والحواضر وبعضها نشا في المدن التاريخية الكبرى كفاس ومكناس وسبتة وسلا ومراكش بفعل تأثير التصوف الوافد من الاندلس ومن الشرق الاسلامي.
ومن تراجم الصوفية في المغرب نجد على سبيل المثال لا الحصر كتاب (المقصد الشريف والمنزع اللطيف في ذكر صلحاء الريف) لعبد الحق البادسي وكتاب (المعزى في ترجمة ابي يعزى) وكتاب (اثمد العينين) و(الموكب الوقاد فيمن حل بسبتة من العلماء والصلحاء والعباد ) الى غيرها من المؤلفات والتراجم عن المتصوفة الزهاد والصلحاء.
ظل المغرب خلال العصور الاولى للإسلام بعيدا عن تأثير الطوائف الصوفية الضالة وعن نظريات الصوفيين الفلسفية الشاذة والتي كانت تعصف بالشرق ويستشهد في هذا الراي بما كتبه ابوبكر الطرطوشي الذي وضع كتابا في البدع والمحدثات في رسالة وجهها من الاسكندرية الى سلطان المغرب آنذاك ورد فيها ان اهل المغرب هم المشار اليهم في الحديث النبوي الشريف (لا يزال اهل المغرب ظاهرين على الحق.. بما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والاحداث في الدين) ولهذا لا نكاد نجد اثر البدعة الصوفية المشرقية في ربوع المغرب قبل القرن السادس الهجري ولا يمكن ان نعثر فيما صنف خلال القرون الاولى كالتشوف على اشارة الى شذوذ ضد التصوف او صدور دعاوي نابية عنهم لان التصوف المغربي اذاك كان مطبوعا بالبساطة ولم يكن اهل التصوف يختلفون عن بقية الناس الا بكثرة العبادة وتلاوة القرءان وسرد المأثور من الادعية كما لم يكن لبس الخرقة والمرقعة صفة لازمة للصوفي المغربي الا اذا جاء ذلك عفويا عن طريق الزهاد في رفض متع الدنيا وكانت رباطاتهم مجامع واماكن للتربية وتعلم العلم وتلاوة القرءان والجهاد في سبيل الدين والوطن والارض ضد الغزاة ومن يتعاون معهم.
كان ظهور الصوفية في المغرب على عهد المرابطين والموحدين في شكل طقوس وممارسات تعبدية شعبية بسيطة ثم ظهرت في بقاع واصقاع مختلفة من المغرب (رباطات) التجا اليها المتصوفة قصد تعليم الناس امور دينهم ودنياهم وامور الجهاد ونتيجة للقمع السياسي والديني الذي كان يمارسه الموحدون على هذه الرباطات ابى المتصوفة واتباعهم الا ان يساعدوا المرينيين على شق هذه الدولة والوصول الى السلطة
ويلاحظ ان السلطان ابا يعقوب يوسف (1258-1286)كان اول من انشا ما نسميه بالزوايا ولكن الغرض الاساسي من بنائها كان هو استقبال الزوار والضيوف والوفود الاجنبية واطعامهم وكانت عبارة عن “فنادق” رسمية وليس امكنة للتعبد غير ان السلطان اباعنان (1351-1357) عندما خصص ميزانية خاصة لتدبير شؤون هذه الزوايا فتح الباب على مصراعيه لتغيير نوعي لهذه الزوايا فصارت مقصدا للمسافرين وللأجانب ومريدي الطريقة الصوفية وخاصة الفقراء منهم ولم يكن ابو عنان يدري انه بهذا الدعم المادي والسياسي والاجتماعي فتح عهدا جديدا لكيان جديد سوف يكون له شان في الحياة السياسية المغربية الى ان صارت هذه الزوايا مرتعا خصبا لتأطير القبائل المغربية المتمردة من جهة وملجا للمعارضة السياسية من جهة اخرى وظهرت شخصيات صوفية ادعت في الغالب النسب الشريف كما ادعت الاتيان بالخوارق واحتكار البركة والكرامات التي كان الناس متعطشين لها وساهمت القبائل المغربية وخصوصا الامازيغية منها في بناء زوايا صارت محلات ورباطات لتعليم الطريقة الصوفية ونظام التزهد وكان لها الفضل في ظهور فنون عديدة كالرقص (الصوفي) والفروسية وفنون الحرب.
بفضل التحام كل القبائل وزعمائها بصلحاء وشيوخ هذه الزوايا اصبحت هذه الاخيرة مقصدا للمضطهدين والمعارضين للسلطة المركزية وشكلت بذلك خطرا على السلطة السياسية المركزية لذا قامت الدولة المرينية بتشجيع الاسلام السني الرسمي الذي يمثله الفقهاء وكان هذا الاسلام الرسمي يعتبر الزوايا مرتعا للجهل والبدع الذي يتعارض كليا مع اسلام السلف الصالح لكن هذا الصراع في الاصل هو صراع بين سلطتين وقوتين وهما سلطة المركز وسلطة المحيط او بالأحرى سلطة المخزن في المدن والحواضر وسلطة القبائل وخصوصا القبائل الامازيغية في البوادي والهوامش وجدير بالذكر ان شان الزوايا عظم اواخر الدولة المرينية وفترة حكم الدولة الوطاسية وذلك بسبب الغزو الاجنبي واحتلاله للعديد من المراكز والمدن والموانئ وعجز السلطة المركزية عن التصدي له وكانت في كثير من الاحيان مهمة الجهاد ضد النصارى والكفار مقتصرة على هذه الزوايا وخاصة زوايا الشمال المغربي وجنوبه.
وفي نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر سوف تشهد صعود الاشراف السعديين في سوس منظمين داخل زاوية تاكمدارت الصحراوية وعبر تنظيم القبائل السوسية والجهاد ضد النصارى سوف يصل هؤلاء الاشراف الى السلطة السياسية ويقومون بالتوحيد السياسي للبلاد.
ذ. محمد بادرة