عبدالله بن عيسى
عندما لا تكون المشكلة في الحكم بل في الحقيقة الناقصة
لم تعد بعض قضايا الطلاق العابرة للحدود تطرح إشكالها في مضمون الأحكام الصادرة، بقدر ما تطرحه في المعطيات التي بُنيت عليها تلك الأحكام.
ففي عدد متزايد من النزاعات الأسرية، يتضح أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في القانون المغربي ولا في نزاهة قضائه، وإنما في تغييب جزء جوهري من الحقيقة المرتبطة بالحياة الزوجية الفعلية بالخارج.
إننا أمام حالات يُقدَّم فيها نزاع أسري وكأنه محصور داخل التراب الوطني، بينما الواقع يؤكد أن العلاقة الزوجية بكل أبعادها القانونية والاقتصادية والاجتماعية تشكلت واستمرت خارج المغرب. هذا التناقض بين الواقع المعاش والوقائع المصرح بها هو ما ينتج في النهاية أحكامًا صحيحة شكليًا، لكنها ناقصة من حيث آثارها.
الحياة الزوجية ليست عنوانًا بريديًا
في عدد من الملفات، يُختزل مفهوم “السكن الزوجي” في عنوان داخل المغرب، يُدرج في المقالات الافتتاحية للدعاوى، دون أن يعكس حقيقة الإقامة الدائمة للزوجين بدولة أخرى. والحال أن الإقامة ليست مجرد مكان مبيت، بل إطار قانوني كامل تتشكل داخله الحقوق والالتزامات، من عمل ودخل وتأمين اجتماعي وضرائب وشراكات مالية.
حين تُقدَّم الحياة الزوجية أمام القضاء المغربي على أساس هذا الاختزال، فإن المحكمة تتعامل مع معطيات ناقصة، وتبني تقديرها القانوني وفق ما هو معروض أمامها، لا وفق ما هو مغيَّب عنها. وهنا لا يمكن الحديث عن تقصير قضائي، بل عن خلل في نقل الحقيقة.
القضاء لا يحاكم النوايا بل الوقائع
من المسلمات القانونية أن القاضي يحكم بناءً على الوثائق والتصريحات والوقائع المثبتة في الملف. وعندما تُغفل معطيات أساسية، كالإقامة بالخارج أو النشاط المهني المشترك أو مصادر الدخل، فإن الحكم يصدر في إطار ضيق لا يستوعب الامتدادات العابرة للحدود للنزاع.
هذا الواقع يكشف أن بعض المساطر القضائية، رغم مشروعيتها الشكلية، قد تُستعمل عمليًا لإنتاج وضع قانوني غير متوازن، لا بسبب القانون ذاته، بل بسبب طريقة تقديم الوقائع وانتقائها.
عامل الزمن والإقامة: حيلة قانونية صامتة
من أخطر ما يُسجَّل في هذا السياق لجوء بعض الأزواج إلى استغلال قرب انتهاء صلاحية وثائق الإقامة بدولة الاستقبال. يتم ذلك غالبًا عبر دفع الزوجة إلى العودة المؤقتة إلى المغرب بدعوى زيارة عائلية أو ظرف طارئ، دون إدراكها لما يُحضَّر في الخلفية.
بمجرد وجودها بالمغرب، تنتهي صلاحية الإقامة، ويصبح الرجوع إلى دولة الاستقرار صعبًا أو مستحيلًا، لتجد الزوجة نفسها فجأة في وضعية قانونية هشّة، تُفتح خلالها مساطر قضائية في غياب توازن فعلي بين الطرفين. هنا لا يُستعمل العنف، بل يُستعمل الزمن، وهو أخطر أشكال الضغط الصامت.
الطلاق كحكم… والطلاق كأثر
الخلط بين الحكم وآثاره هو جوهر الإشكال في هذه القضايا. فالطلاق الصادر عن القضاء المغربي قد يكون سليمًا من حيث الإجراءات، لكنه لا يُسقط تلقائيًا الحقوق المكتسبة بدولة الإقامة، سواء تعلق الأمر بالممتلكات أو التعويضات أو الوضعية الاجتماعية.
غير أن غياب الوعي القانوني لدى الزوجة، أو تأخرها في فتح مسطرة موازية أمام قضاء دولة الاستقبال، يحول هذا الحكم إلى أداة إقصاء عملي، لا لأن القانون يسمح بذلك، بل لأن الزمن يعمل ضد الطرف الأضعف.
من يدفع الثمن؟
في أغلب الحالات، تكون النتيجة واحدة… زوجة مطلقة بحكم مغربي، تواجه الإدارات الأجنبية بوثيقة لا تعكس حقيقة حياتها الزوجية، وتُطالب بإثباتات كان ينبغي طرحها منذ البداية. في المقابل، يكون الطرف الآخر قد سبق بخطوة، وفرض واقعًا قانونيًا جديدًا يصعب تداركه لاحقًا.
هنا يتحول الصمت أو الجهل أو التأخر إلى خسارة حقيقية، لا تُعوَّض بسهولة.
هل نحن أمام ثغرة قانونية أم أزمة وعي؟
السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو… هل الخلل في النصوص القانونية، أم في غياب آليات تُلزم بكشف الحقيقة الكاملة للحياة الزوجية العابرة للحدود؟
الواقع يشير إلى أن الإشكال يرتبط أساسًا بنقص الوعي القانوني، وغياب مواكبة مبكرة، وعدم إدراك أن الطلاق، في السياق العابر للحدود، لا ينتهي بالحكم، بل يبدأ بآثاره.
العدالة لا تكتمل بنصف حقيقة
العدالة لا تُبنى على الوقائع المجتزأة ولا على العناوين الشكلية، بل على الصورة الكاملة للحياة الزوجية، أينما كانت. وتغييب هذه الصورة، عن قصد أو عن جهل، لا يمكن إلا أن يُنتج ظلمًا مؤجلًا.
إن الحاجة اليوم ليست فقط إلى نصوص قانونية، بل إلى وعي قانوني جماعي، ونقاش عمومي صريح، يضع حدًا لتحويل المساطر القضائية من أدوات إنصاف إلى وسائل إقصاء صامتة.


التعاليق (0)