عبدالله بن عيسى
تظهر في السنوات الأخيرة مؤشرات مقلقة على بروز ممارسات غير معلنة داخل نزاعات أسرية عابرة للحدود، تستهدف بالأساس الزوجات المقيمات بالخارج، خصوصًا في فرنسا.
هذه الممارسات لا تقوم على طرد مباشر أو عنف ظاهر، بل تعتمد على استغلال الزمن القانوني، وتضارب القواعد بين منظومتين قضائيتين، وضعف الوعي بالإجراءات… لتتحول بعض المساطر إلى ما يشبه “الإقصاء الصامت” الذي تُدفع ثمنه الزوجة في الحقوق والإقامة والاستقرار.
وفي هذا السياق، يبرز مصطلحان يتكرران في شهادات وتتبعات قانونية: “الترحيل الصامت” و“الطلاق العابر للحدود”، حيث يُستعمل أحيانًا طلاق الشقاق بالمغرب كمدخل شكلي، ثم يتم توظيف آثاره بشكل مضلل داخل فرنسا أو في ملفات الإقامة والعمل والملكية.
ما المقصود بـ“الترحيل الصامت”؟
لا يتعلق الأمر بترحيل إداري رسمي تقرره دولة الإقامة، ولا بقرار طرد صادر عن الشرطة أو القضاء، بل بمسار غير مباشر يقوم غالبًا على:
- دفع الزوجة إلى السفر إلى المغرب بدعوى عائلية أو ظرف طارئ.
- خلق واقع زمني يجعلها بعيدة عن مركز مصالحها (العمل، السكن، الملفات الإدارية).
- استغلال غيابها لفتح مساطر أو تقديم معطيات منقوصة أمام القضاء.
- إرباكها قانونيًا حتى تفقد القدرة على الرد أو الدفاع في الوقت المناسب.
وتزداد خطورة هذه الخطة لأنها غالبًا لا تترك أثرًا مباشرًا يُسهّل إثباتها بسرعة، بل تتقدم خطوة بخطوة عبر الزمن والتأخر والصمت.
حين تُستغل ثغرات الإقامة: “سافرِي الآن”… ثم يُغلق الباب
من بين الحيل الخطيرة التي رُصدت في بعض النزاعات الزوجية العابرة للحدود، لجوء بعض الأزواج إلى استغلال قرب انتهاء صلاحية بطاقة الإقامة الخاصة بالزوجة المقيمة بالخارج، عبر دفعها أو إقناعها بالسفر إلى المغرب قبيل انتهاء الوثيقة، بدعوى زيارة عائلية أو تسوية مؤقتة.
وفي عدد من الحالات، يُفاجأ الطرف المتضرر بعد الوصول إلى المغرب بتعقيدات تحول دون عودته إلى بلد الإقامة، سواء بسبب انتهاء صلاحية بطاقة الإقامة أثناء وجوده خارج التراب الفرنسي، أو نتيجة حجز الوثائق الإدارية أو جواز السفر، أو الامتناع عن تسليمها في الوقت المناسب، ما يجعل الرجوع إلى فرنسا متعذرًا أو شديد التعقيد.
وتكمن خطورة هذه الممارسة في أنها لا تعتمد على قرار إداري صريح أو طرد مباشر، بل تقوم على إدارة الزمن القانوني واستغلال القواعد المرتبطة بالإقامة، وهو ما قد يضع الزوجة في وضعية غير نظامية دون أن تكون قد ارتكبت أي مخالفة.
ويؤكد مختصون أن انتهاء بطاقة الإقامة خارج فرنسا قد يترتب عنه فقدان حق الدخول من جديد، أو فرض مساطر معقدة وطويلة لإعادة التسوية، ما يمنح الطرف الآخر أفضلية قانونية في النزاع، خصوصًا إذا تزامن ذلك مع فتح مساطر طلاق أو نزاعات أسرية.
ولهذا، يشدد خبراء في القانون والهجرة على ضرورة توخي أقصى درجات الحذر قبل أي سفر في حال وجود توتر أسري أو قرب انتهاء وثائق الإقامة، مع التأكيد على أن الاحتفاظ بالوثائق الشخصية وعدم تسليمها لأي طرف، والاستشارة القانونية المسبقة، تبقى إجراءات وقائية أساسية لتفادي الوقوع في هذا النوع من الإقصاء الصامت.
كيف يُستغل هذا الوضع أمام القضاء المغربي؟
في حالات متفرقة، يُلاحظ أن النزاع يُقدَّم أمام القضاء المغربي بطريقة قد لا تعكس الصورة الكاملة لوضع الزوجة بالخارج، ومنها مثلًا:
- تقديم عناوين غير محيّنة أو لا تعكس مقر الإقامة الفعلي.
- إغفال معطيات عن الشغل أو الدخل أو المساهمة الاقتصادية.
- اختزال النزاع في “خلاف أسري بسيط” دون الإشارة لتداخل المال والعمل والشركات بالخارج.
- توجيه الملف نحو مسطرة أسرية سريعة، تُستعمل لاحقًا كـ“وثيقة جاهزة” في نزاعات أخرى.
وهنا تتضاعف المخاطر عندما تكون الزوجة خارج فرنسا أو غير قادرة على تتبع الإجراءات، فتتسع فجوة الزمن، وتضيق آجال الرد والطعن.
هل يسقط الطلاق المغربي حقوق الزوجة في فرنسا؟
هذه نقطة مركزية في التوعية: الطلاق الصادر في المغرب لا يعني تلقائيًا سقوط الحقوق داخل فرنسا، لأن القانون الفرنسي يميز بين:
- الاعتراف بالطلاق من حيث إنهاء الرابطة الزوجية (وفق شروط معينة).
- وبين ترتيب الآثار المالية والاجتماعية والممتلكات وحقوق الشغل داخل فرنسا.
وبمعنى أوضح: حتى لو وُجد حكم طلاق بالمغرب، فهذا لا يمنع—من حيث المبدأ—من:
- المطالبة بالحقوق المرتبطة بالممتلكات المكتسبة في فرنسا.
- إثبات حقوق الأجرة إن وُجد عمل فعلي أو علاقة شغل.
- إثبات المساهمة في شركة أو مشروع، إذا كانت الزوجة شريكة أو مسهمة أو مشاركة في التسيير أو الإنتاج.
- فتح مسطرة موازية أمام القضاء الفرنسي عند الضرورة.
لكن الإشكال يظهر عندما يُقدّم الطلاق المغربي داخل فرنسا على أنه “إغلاق شامل” لكل الآثار، ويُستثمر جهل الزوجة أو تأخرها لتثبيت واقع جديد.
لماذا تُعد هذه الممارسة “إقصاءً قانونيًا”؟
لأنها تجمع بين عدة عناصر خطيرة:
- عنصر المفاجأة: تُدفع الزوجة خارج بلد الإقامة في توقيت حساس.
- استغلال فارق القوانين: ما هو سريع هنا، قد يؤثر هناك إذا لم يتم الرد فورًا.
- الوثائق بدل الحقيقة: القضاء يبني أحكامه على المعطيات المقدمة، والغياب يضعف الدفاع.
- التأخر قاتل: حين تمر الآجال، تصبح المعركة أصعب ولو كانت الحقوق ثابتة.
والنتيجة في بعض الملفات: زوجة تجد نفسها خارج فرنسا، ووثائقها منتهية أو محجوزة، ومساطر تُفتح في غيابها، وواقع قانوني جديد يتشكل دون أن تكون طرفًا حاضرًا فيه.
مؤشرات إنذار يجب الانتباه لها
توجد علامات إذا ظهرت، ينبغي التعامل معها بحذر شديد، ومنها:
- طلب السفر إلى المغرب “فجأة” قبل أسابيع من انتهاء بطاقة الإقامة أو وثائق السفر.
- محاولة أخذ جواز السفر أو بطاقة الإقامة “للتصوير” أو “لإجراء إداري”.
- تسريع مفاجئ لموضوع الطلاق أو طلب توقيع أوراق دون شرح قانوني.
- عبارات من قبيل: “سافري فقط أسبوعين”… مع غياب ضمانات مكتوبة.
- توتر واضح في العلاقة مع اقتراب آجال الإقامة أو التجديد.
كيف تحمي الزوجة نفسها؟ خطوات عملية واقعية
التوعية هنا لا تعني التخويف، بل بناء “خارطة نجاة” عملية:
- لا تسافري إذا كانت الإقامة على وشك الانتهاء
خصوصًا إذا كان هناك نزاع أو توتر أو تهديدات مبطنة أو غموض في النوايا. - احتفظي بالوثائق الأصلية دائمًا
جواز السفر، بطاقة الإقامة، عقود العمل، كشوفات الحساب، عقود السكن، وثائق الشركات… لا تُسلّم إلا لجهة رسمية وبوصل. - وثّقي وضعك المهني والمالي باستمرار
احتفظي بما يثبت: الدخل، التحويلات، المشاركة في المصاريف، العمل داخل مشروع، المساهمة الفعلية. - إذا وقع السفر اضطرارًا: ضعي ضمانات مكتوبة
على الأقل نسخة ممسوحة من الوثائق، ومعلومة قانونية حول العودة، وتواصل مع محامٍ أو جهة مختصة. - فتحي مسطرة موازية بفرنسا عند الحاجة
خصوصًا إذا كان النزاع يمس ممتلكات أو شغل أو إقامة. - لا توقعي على أي وثيقة دون فهم أثرها
بعض التوقيعات قد تُستعمل لاحقًا كتنازل أو “إقرار” في ملف آخر.
دور المؤسسات والجمعيات: لماذا نحتاج يقظة أكبر؟
القضايا العابرة للحدود تتجاوز الأسرة لتلامس:
- حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
- حماية النساء من الاستغلال القانوني.
- حماية الاستقرار الإداري والهجرة النظامية.
- حماية الأطفال حين يتحول النزاع إلى أداة ضغط.
ولذلك، يبقى ضروريًا تعزيز دور التوعية القانونية، وتوفير مواكبة مبسطة للنساء خصوصًا في ملفات: الإقامة، الطلاق، الشغل، الملكية، الشراكة.
يكشف “الترحيل الصامت” للزوجات عن شكل جديد من التحايل لا يعتمد الصدام المباشر، بل يراهن على الزمن والغياب والتأخر. وبين المغرب وفرنسا، قد تتحول الفوارق القانونية إلى فخ إذا غاب الوعي والإرشاد.
غير أن القاعدة الأهم تبقى واضحة: الحقوق لا تسقط بالصمت، لكنها تحتاج إلى سرعة التحرك، وحماية الوثائق، وفهم المساطر، وعدم ترك الزمن يشتغل ضد الطرف الأضعف.


التعاليق (0)