بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
منذ فجر الاستقلال، لم يكن المغرب مجرد دولة تبحث عن بناء ذاتها بعد رحيل الاستعمار، بل كان مشروعًا وطنيًا وإنسانيًا يؤمن بأن نهضة الأمة لا تكتمل إلا بتكامل شعوبها. ومن بين أبهى تجليات هذا الإيمان، تلك اليد المغربية التي امتدت دائمًا نحو الجزائر، يدٌ لم تعرف الانقباض رغم الجفاء، ولم تفقد دفئها رغم الرياح الباردة التي هبّت من الشرق.
من محمد الخامس الذي آثر دعم استقلال الجزائر على فرحة استقلال بلاده، إلى محمد السادس الذي لا يملّ من الدعوة إلى الحوار والوحدة، ظل الموقف المغربي ثابتًا على مبدأٍ راسخ: أن الأخوّة لا تُقاس بالمواقف السياسية العابرة، بل تُبنى على قيم التاريخ والمصير المشترك.
- محمد الخامس… استقلال ناقص ما دامت الجزائر تحت الاستعمار
حين استقل المغرب سنة 1956، كان أغلب قادته وشعبه يرون أن فرحة التحرر تبقى منقوصة ما دامت الجزائر، الجارة والشقيقة، رازحة تحت نير الاستعمار الفرنسي.
فبإيمان الوحدويين المغاربة بوحدة الكفاح المغاربي، قرر الملك محمد الخامس طيب الله ثراه أن يجعل من دعم الثورة الجزائرية أولوية وطنية. ففتح الحدود أمام المجاهدين، وقدم السلاح والدواء، وأقام مستشفيات ميدانية على الحدود الشرقية، وجنّد الدبلوماسية المغربية في كل المحافل الدولية للدفاع عن حق الجزائر في الحرية.
بل رفض الملك الراحل كل الإغراءات الفرنسية التي عرضت عليه ترسيم الحدود مقابل التنازل عن دعم الثوار، قائلاً إن الحدود لا تُرسم فوق جراح الشعوب المكافحة. وهكذا، قدّم المغرب نموذجًا فريدًا في التضامن العربي والإسلامي، حيث آثر مصلحة الجار على راحته الداخلية في سنواته الأولى من الاستقلال.
- حرب الرمال… انقلاب الشكر إلى السلاح
غير أن صفحات التاريخ لم تخلُ من جراح. فبعد استقلال الجزائر سنة 1962، كانت الرباط تنتظر عرفانًا وردًّا للجميل، إلا أن السياسة سارت في اتجاه آخر. إذ تنصل الرئيس أحمد بن بلة من اتفاقه حول تسوية الحدود، ليتفجر النزاع المسلح سنة 1963 فيما عُرف بـ”حرب الرمال”.
كانت تلك الحرب مؤلمة من الناحية المعنوية، إذ وجد المغاربة أنفسهم يواجهون بالسلاح من ساعدوهم بالأمس على نيل حريتهم. لكن المغرب، برزانة قيادته، أوقف الحرب بسرعة، إدراكًا منه أن الدم المغاربي لا يجوز أن يُراق من أجل خطوط رسمها الاستعمار الفرنسي.
- الحسن الثاني… ثبات المبدأ رغم الجراح
واصل الملك الحسن الثاني النهج ذاته في الصبر والتعقل. فحين احتضنت الجزائر حركة البوليساريو وسلحتها، ساعيةً إلى تقسيم المغرب وضرب وحدته الترابية، لم يردّ الحسن الثاني بالمثل، بل دعا مرارًا إلى الحوار والمصالحة.
وفي الوقت الذي أطلق فيه المغرب المسيرة الخضراء السلمية سنة 1975 لاسترجاع أقاليمه الجنوبية، ردّت الجزائر بما سُمّي بـ”المسيرة الكحلة”، إذ طردت وشردت آلاف الأسر المغربية المقيمة على أراضيها. ومع ذلك، آوى المغرب هؤلاء المنكوبين ودمجهم في نسيجه الاجتماعي، في موقف يجسد عمق الإنسانية التي تميّز العرش المغربي.
- محمد السادس… حكمة الاستمرار في مدّ اليد
ورث الملك محمد السادس هذا النهج الثابت، فكانت اليد الممدودة محورًا متكررًا في كل خطبه ورسائله الموجهة إلى الجزائر. دعا غير ما مرة إلى “فتح صفحة جديدة” و”تغليب صوت الحكمة والمصير المشترك”، مؤكدًا أن الشعبين المغربي والجزائري “شعب واحد في بلدين شقيقين”.
ورغم القطيعة السياسية وغياب قنوات الحوار الرسمية، لم تصدر عن الرباط إلا رسائل التهدئة والدعوة إلى بناء المستقبل المشترك. وهو ما يعكس عمق الرؤية المغربية التي ترى في حسن الجوار ركيزة للأمن والاستقرار في المنطقة المغاربية كلها.
- تحليل الموقف المغربي: الوفاء كمبدأ دولة
إذا تأملنا هذا المسار الممتد عبر عقود، يتضح أن اليد الممدودة ليست سياسة ظرفية بل عقيدة ملكية. من محمد الخامس إلى محمد السادس، ظل المغرب وفيًّا لمبدأ الأخوّة المغاربية، مؤمنًا بأن العداوة لا تصنع التنمية، وأن التضامن هو الطريق الوحيد نحو التقدم.
لقد تعرضت هذه اليد الممدودة غير مرة للعضّ والخذلان، لكنها لم تنكمش، لأن فلسفة الدولة المغربية ترى في الكرامة والوفاء عناصر قوة، لا ضعف. إنها حكمة الملوك الذين يفكرون في الأجيال، لا في الانفعالات اللحظية.
- الخاتمة
وهكذا، يظلّ المغرب وفيًّا لنهجه العريق، لا تُغيّره التقلبات السياسية ولا تُغريه لغة التصعيد. فاليد التي امتدت بالأمس من محمد الخامس إلى الثوار الجزائريين، هي نفسها التي ما تزال ممدودة اليوم من محمد السادس، لا تطلب جزاءً ولا شكورًا، بل تؤمن أن حسن الجوار ليس خيارًا دبلوماسيًا، بل واجبًا حضاريًا وأخلاقيًا.
وربما يأتي اليوم الذي تُصافح فيه اليد الممدودة من يليق بها، فيُكتب للمنطقة المغاربية أن تستيقظ من سباتها الطويل، وتدرك أن المصير الواحد لا يصنعه العناد، بل تصنعه النية الصادقة وذاكرة الوفاء.


التعاليق (0)