بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
قبل نصف قرن من الزمن، في السادس من نونبر 1975، صدح نداء جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، معلنًا انطلاق أعظم مسيرة سلمية في القرن العشرين، مسيرة حملت المصاحف بدل البنادق، والأعلام الوطنية بدل السلاح، واسترجعت الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية بالإيمان والوحدة لا بالقوة والصراع.
لقد كانت المسيرة الخضراء معجزة القرن بحق، وفكرة عبقرية تجاوزت كل التوقعات، إذ جمعت أكثر من 350 ألف مغربي ومغربية في لوحة وطنية مهيبة، تجسد أسمى معاني التلاحم بين العرش والشعب، وتؤكد للعالم أن الإرادة الجماعية، حين تقودها رؤية حكيمة، قادرة على تحقيق المستحيل.
- فكرة عبقرية بتوقيع الحسن الثاني
لم تكن المسيرة الخضراء مجرد خطوة سياسية لاسترجاع أرض مغتصبة، بل كانت رؤية استراتيجية متكاملة وضع أسسها الحسن الثاني بعقلية القائد المفكر.
ففي زمنٍ كانت الحروب والانقلابات سيدة المواقف، اختار المغرب طريق السلم والإيمان، مستندًا إلى القرآن الكريم وإلى شرعية الحق التاريخي.
بهذه الفكرة العبقرية، أبهر الملك الراحل العالم، إذ تمكن من تحويل مطلب التحرير إلى ملحمة سلمية حضارية أدهشت المراقبين وأربكت خصوم الوحدة الترابية.
وقد وصفها أحد المفكرين المغاربة، عبد القادر العافية، بأنها «إلهام رباني وتدبير حسني»، لأنها جمعت بين الإلهام الإيماني والتدبير العقلاني، وبيّنت أن القوة الحقيقية للأمم تكمن في قيمها ووحدتها قبل سلاحها.
- تلاحم الشعب والعرش.. سرّ الخلود
ما جعل المسيرة الخضراء خالدة في الوجدان المغربي هو ذلك التلاحم النادر بين العرش والشعب.
لقد لبّى المغاربة النداء دون تردد، من مختلف الجهات والفئات، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، في تجسيد صادق للمواطنة الحقة والإيمان العميق بعدالة القضية.
وقد عبّر أحد شيوخ القبائل الصحراوية، السيد عبد الله الصالحي، عن هذا التلاحم بقوله: «المسيرة السلمية وحدت الأمة المغربية وعززت ارتباطها بالوطن الأم».
ذلك التجاوب الشعبي الهائل جعل من المسيرة درسًا إنسانيًا وسياسيًا للعالم، وحدثًا استثنائيًا أكد أن المغرب بلد الوفاء والعهد، وأن إرادته الجماعية لا تعرف المستحيل.
- من مسيرة التحرير إلى مسيرة البناء
لم تتوقف المسيرة الخضراء عند لحظة العبور نحو الصحراء، بل تحولت إلى مسيرة دائمة من البناء والتنمية والتأهيل.
فالأقاليم الجنوبية اليوم تشهد دينامية غير مسبوقة، جعلتها نموذجًا في التنمية المستدامة بفضل الرؤية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي جعل من الصحراء قلب المغرب النابض وبوابة إفريقيا الاقتصادية.
من مشاريع البنية التحتية العملاقة إلى الموانئ الحديثة، ومن برامج تمكين الشباب والمرأة إلى تأهيل العنصر البشري، أصبحت الصحراء ورشة وطنية كبرى، تؤكد أن روح المسيرة لا تزال حية ومستمرة في كل خطوة من خطوات التنمية المغربية.
- عبقرية لا تنتهي ومفعول مستمر
اليوم، وبعد مرور خمسين سنة، ما زالت المسيرة الخضراء تسكن وجدان المغاربة، وتلهم الأجيال المتعاقبة بقيمها النبيلة في الوطنية، والوفاء، والوحدة، والتضحية.
إنها ليست فقط صفحة من التاريخ، بل مشروع حضاري متجدد، يمتد أثره في الحاضر ويصوغ ملامح المستقبل.
فالمسيرة التي حررت الأرض ما زالت تواصل رسالتها لتحرير الإنسان من الجهل والتهميش، ولتحقيق الكرامة والازدهار في كل ربوع الوطن.
إنها بحق مسيرة عبقرية مستمرة، تحولت من حدث تاريخي إلى فلسفة وطنية، ومن ملحمة التحرير إلى منهج دائم للبناء والانتصار.
- خاتمة
المسيرة الخضراء لم تكن مجرد حدث في سجل التاريخ المغربي، بل كانت ميلادًا جديدًا للأمة، ودرسًا خالدًا في عبقرية القيادة ووحدة الشعب.
هي مسيرة من نور، انطلقت سنة 1975 وما زالت مستمرة إلى اليوم، تحمل في كل مرحلة مضمونا جديدا من معاني التحرر، والتنمية، والكرامة، والانتصار.
ولهذا، ستظل المسيرة الخضراء معجزة القرن وعبقرية الزمان، تشهد على أن المغرب، بقيادته وشعبه، سيبقى دائمًا بلد الإلهام والوفاء والانتصارات السلمية.


التعاليق (0)