بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
لم يكن صباح تازة كباقي الصباحات.
في مشهد مأساوي اهتز له الرأي العام المغربي، فقد تلميذ لا يتجاوز عمره اثني عشر عامًا حياته غدرًا، بعدما هاجمه شخص مختل عقليًا وهو في طريقه إلى مدرسته، موجّهًا إليه ضربة قاتلة بقنينة زجاجية. فاجعة تازة لم تكن مجرد حادثة عابرة، بل ناقوس خطر يدقّ بعنف في وجه المنظومة الصحية والاجتماعية، التي تركت آلاف المرضى العقليين يتجولون في الشوارع دون رعاية أو متابعة.
- غياب الرعاية… وحضور الخطر
لم تكن واقعة تازة استثناءً. ففي مدينة إيموزار، أقدم مختل عقلي يبلغ من العمر 63 سنة على الاعتداء على شرطي، في مشهد آخر يعيد طرح سؤال الرعاية الصحية والنفسية في المغرب. هذه الحوادث، التي تتكرر بين الفينة والأخرى، تعكس فشلًا مؤسساتيًا في التعامل مع فئة هشة تحتاج إلى العناية لا الإهمال، وإلى الاحتواء لا التهميش.
تقول فعاليات جمعوية إن “ملف الأشخاص في وضعية هشاشة نفسية أصبح قنبلة اجتماعية موقوتة”، مطالبة بتدخل عاجل لحماية هذه الفئة وحماية المجتمع من الانعكاسات الخطيرة لوضعها الحالي.
- شوارع تحتضن الألم والخطر
في مدن عديدة، صار مشهد المختلين عقليًا في الشوارع مألوفًا حدّ التطبيع. بعضهم يعيش على الأرصفة، وآخرون يعودون ليلاً إلى أسرهم المنهكة من الفقر والعجز. نادية من تارودانت تحكي كيف عضّها مختل عقلي ذات يوم وهي تمرّ بجواره، فيما تعرّضت أخرى لضربة حجر في الرأس. أما رشيدة، العاملة في مكتبة قرب الرباط، فتقول إنها تواجه يوميًا تهديدات من مرضى نفسيين يطلبون المال بعنف، “خصوصًا عندما لا يتناولون دواءهم”، كما تقول.
هذه الشهادات تعكس خوفًا متناميًا لدى المواطنين من التعرّض لاعتداءات مفاجئة، في وقت تكتفي فيه السلطات بتدابير محدودة لا تلامس عمق المشكلة.
- أزمة منظومة الصحة النفسية
الأرقام الرسمية تزيد المشهد قتامة: فبحسب تقارير وزارة الصحة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، يعيش آلاف المختلين عقليًا في الشوارع دون أي رعاية. في الدار البيضاء وحدها، يُقدّر عددهم بثلاثة آلاف شخص. أما عدد الأطباء النفسيين في القطاع العام فلا يتجاوز 172 طبيبًا فقط، مقابل 21 ألف مريض عقلي في المدينة نفسها.
المستشفيات المخصصة للعلاج النفسي (27 فقط على الصعيد الوطني) تعاني بدورها من الاكتظاظ، نقص الأدوية، ضعف التجهيزات، وغياب المتابعة الاجتماعية للمريض. كل ذلك يجعل من إعادة إدماج المرضى حلمًا بعيد المنال.
- الفقر.. الوجه الخفي للمرض العقلي
يقول الباحث السوسيولوجي رشيد جرموني إن “الفقر وهشاشة التنمية يخلقان تربة خصبة للأمراض النفسية والعقلية”، مشيرًا إلى أن “المرض العقلي يزدهر في بيئة من الإحباط الاجتماعي والاقتصادي”. ويضيف أن مسؤولية وزارة الصحة “ثابتة في هذا التقصير”، فوجود مختلين عقليين في الشوارع صار “أمرًا روتينيًا”
ويرى جرموني أن الحل لا يكمن فقط في بناء المستشفيات أو توفير الأدوية، بل في “خلق نموذج تنموي حقيقي يقلّص الهوة بين الفئات الاجتماعية، ويمنح للإنسان كرامته وحقه في العيش النفسي السليم”.
- بين الإصلاح والواقع
رغم إعلان وزارة الصحة سنة 2013 عن مخطط وطني لتحسين ظروف علاج الأمراض العقلية، تضمن إضافة أسِرّة جديدة وتكوين أطر تمريضية، إلا أن النتائج الميدانية لم تلامس الواقع بعد. بل إن خطوة إخلاء قرية “بويا عمر”، التي كانت تُحتجز فيها مئات الحالات في ظروف غير إنسانية، ورغم أنها مبادرة إنسانية في أصلها، زادت الطين بلة بعد غياب بديل مؤسساتي فعّال، ما جعل كثيرًا من المرضى يعودون إلى الشارع من جديد.
- نحو رؤية شمولية
إن مأساة تازة ليست حادثة معزولة، بل مرآة تعكس نقص في تدبير ملف الصحة النفسية بالمغرب. فبين نقص البنية التحتية وغياب الكفاءات المتخصصة وضعف الميزانية، يجد المرضى العقليون أنفسهم في مواجهة الشارع والمجتمع معًا.
الحل لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط، بل يجب أن يكون متعدد الأبعاد:
-صحيًا عبر تعميم خدمات الطب النفسي وضمان الدواء والرعاية.
-اجتماعيًا عبر سياسات إدماج فعالة للأسَر المعوزة.
-أمنيًا عبر حماية المواطنين وتوفير فضاءات آمنة.
-تربويًا عبر نشر الوعي بالصحة النفسية ومحاربة الوصم الاجتماعي.
- خاتمة
تازة اليوم ليست مجرد مدينة نكأتها الفاجعة، بل رمزٌ لوجع مجتمع بأكمله. فكل مختل عقلي متروك في الشارع، هو قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة. ولا سبيل إلى تجنّب المزيد من المآسي إلا بإرادة سياسية حقيقية تجعل الصحة النفسية أولوية وطنية، لا هامشًا منسياً في السياسات العمومية.
التعاليق (0)