قيم الفضيلة والكفاءة سلاح الطبيب في شفاء الاجسام والارواح
الفضيلة الاخلاقية للطبيب ليس الفحص الميكانيكي للجسم وانما الفحص الطبي والصحي للمريض
الطب مهنة قديمة، بل هي من اقدم المهن التي عرفتها البشرية، وهي مهنة انسانية واخلاقية وعلمية تتميز بين المهن الاخرى بميثاق شرف وقسم جرى العرف على ان يؤديه الطبيب قبل ان يبدا مزاولة المهنة، وهذا القسم عادة هو احد اشكال قسم ابقراط على الرغم من التجديدات التي حصلت عليه بعد عصر ابقراط، هي مهنة تستلزم ممن يزاولها صفات وميزات خاصة من الفضائل الاخلاقية كالشفقة والرحمة والرفق بالغير والنزاهة وحب التضحية لخير المجتمع فضلا عن الكفاءة والخبرة وقوة الملاحظة. ومجد هذه المهنة لا يكون دون ان يتصف الطبيب بحكمة انسانية اعمق بكثير مما تستطيع ان تقدمه التقنيات الطبية في امور الجسد، فالطبيب الحكيم السعيد لن يحس بمجده وشرفه وسعادته الا من خلال التعامل اليومي مع المرضى حين يشاركهم خبرته في مواجهة الارواح العاطفية والاجسام المحتضرة، يساعد الموجوعين ويرشدهم لتجاوز محنتهم، ينصت اليهم بقلبه وعقله ويزودهم بالفرص الحقيقية للحياة حتى يسعدهم في حياتهم، لان السعادة هي نشاط مستمر مدى الحياة وفقا لقيم الفضيلة كما قال( ارسطو).
الطب مهنة انسانية قديمة الا انها تطورت بتطور العلوم الحديثة، لكن التطور العلمي للطب واتصاله الوثيق بالأجيال المتطورة من التقنيات لا ترى فيه الا بابا يفضي الى ازالة معاناة الانسان العضوية والنفسية والعقلية، وبهذا يجتمع العلم مع الطب في اتصالهما الوثيق بالتكنولوجيا الحديثة، الا انهما يختلفان في الوظيفة والاهداف. فهل اهداف الطب الحديث هي اهداف العلم الحديث نفسها ؟وهل الاطباء مثل العلماء ؟
الاطباء ليسوا كالعلماء، فالأطباء يعالجون المرضى، ويسعون الى شفائهم من كل الاوجاع والالام والاسقام، ولا يسعون الى اختزال الطبيعة البشرية الى مجرد معادلات رياضية جافة، بل لا يجب عليهم ان يركزوا في مهنتهم على الوظائف الميكانيكية للجسم (كالعلماء)، والا فان الطبيب سينظر الى معاناة المرضى والموجوعين وكأنها مسالة تحتاج الى تقنية واجهزة تكنولوجية للكشف والتشخيص … وهوما جعل كثيرا من الاطباء يفكرون ويتصرفون كالعلماء، ومن المحتمل ان يكون هذا ضروريا اذا كانوا سيستعملون الادوات الفنية ببراعة الادوات التي جعلها العلم التجريبي وحده ممكنة، لكن تحويل الطب على صورة العلم يمكن ان يحجب عنا الخاصية الحقيقية لمهنة الطب حيث المريض ليس مجرد حالة مادية (والنظر اليه من هذه الزاوية اهانة له) وانما هو حالة مركبة من جسد وروح وعقل.
اننا اذا ما كونا واهلنا الاطباء كي يصبحوا مجرد ميكانيكيين مع الجسم البشري، فقد نتركهم غير مهيئين للمواجهة الانسانية مع المريض واليائس والمحتضر و المتألم والمكتئب حتى ولو جهزناهم بأحدث واعقد اجهزة العصر الطبية، ومن الممكن ان يبقى الطبيب عاجزا وفاشلا وقاصرا في مهمته في انقاد الارواح وشفائها اذا اكتفى بالتعامل الميكانيكي مع مريضه.
ان مفهوم الصحة بالمعنى العام ليس فقط ان يكتفي الطبيب بان يخلص مريضه من الاعراض او الاضطراب العضوي الذي دفع به الى العلاج ليحكم بانه قد شفي وانه الان سليم ومعافى، لكن الصحة بالمعنى العام لا تتوقف عند عتبة التخلص من الاعراض المرضية ولا على مجرد الخلو من المرض والاضطراب بل تتطلب منه ان يدفع مريضه الى الاحساس بالإيجابية والفاعلية والرضا النفسي وغيرها من الصفات الدالة على الصحة والاتزان.
ان على الطبيب – كذلك- ان يتصف بفضائل اخلاقية مثالية حتى تصبح مسؤولياته جزء من ذاته وحتى يصبح وضع احتياجات مرضاه فوق احتياجاته، ولا تتضمن ممارسة مهنة الطب رهانا مرتفعا اكثر من تحقيق (حياة ورفاه وصحة الاخر)، لذلك فقسمه يتطلب القيام بالعمل الصائب مع امكانية ان يتعرض الطبيب والمريض كلاهما للخطر، لان الطبيب هو في خدمة الغاية الانسانية.. حتى النخاع.
فضيلة الطبيب ان يعتكف بجانب سرير المريض
الفضيلة الاخلاقية للطبيب تتشكل حقيقة وتعلن عن نفسها الى جانب سرير المريض وليس في قاعات ومكاتب او مرافق الراحة بالمستشفى ولا حتى بمختبرات الابحاث. فمن خلال تتبعه لتفاصيل الوضعية الصحية والنفسية للمرضى فانه يستطيع ان يبعث فيهم الامل في الحياة ويزيل عنهم الشعور بالتعاسة في عزلتهم عن اقربائهم او اصدقائهم، ومريض بعد اخر (يتمكن الطبيب من إظهار قدراته الشكسبيرية على التحمل لينخرط في قصص انسانية معينة. وهذه الامور الخاصة بالإنسان ليست من مادة العلم لكنها من الشعور الانساني بالحياة حيث يجد الطبيب متعة بالغة في الخصوصية الانسانية وفي تناقض السلوكات والعواطف فتنكشف له دراما الحياة الشخصية للأشخاص، وهي احدى امتيازات مزاولة مهنة الطب) فيليب اوفرباي – التربية الاخلاقية للطبيب.
الطبيب يرى المرضى ويرى الناس في احسن احوالهم واسوئها، يلاحظ، يتابع، يستكشف، يحصي، يرشد، ينصح، ينهي ويحذر، يعاشر المرضى في رزانتهم وتقلباتهم الوجدانية والمزاجية، ويضبط انفعالاتهم السلبية الهدامة كالقلق والاكتئاب والغضب والمخاوف من الموت او المرض.. وعند ” الاعتكاف ” اليومي للطبيب الى جانب اسرة المرضى فانه سيتعلم من القصص الانسانية للمرضى كيف يمكنهم ان يقاموا قسوة المرض ويحصلوا على نعمة الصحة ويمتلكوا الشجاعة لتحمل الالم ومواجهة الموت، وهذا هو ما يمكن ان يوصل الطبيب الى المجد الانساني الذي يتسامى فوق الوجود المادي لمهنة الطب وفقا لقيم الفضيلة الاخلاقية.
هذه الصورة الفاضلة للطبيب قد تخدشها احيانا بعض السلوكات الفردية التي لا تشكل ظاهرة مهيمنة في الوسط الطبي، كان يعمد الطبيب الى استخدام فكره وذهنه ويده على وجه يخالف ما اقسم عليه قبل مزاولة المهنة، وتلقى تلك السلوكات والتصرفات اللاإنسانية ردود فعل اجتماعية قوية من الاستهجان والاستغراب والازدراء لشخص الطبيب لا للمهنة ذاتها، والمتتبع للصحافة والمواقع الاجتماعية يطلع على نماذج من ذلك.
وعن ممارسة مهنة الطب في اطار قيم الفضيلة واخلاق المهنة قدم الدكتور دنيال فوستر جوابا ضمنيا عن قيم الفضيلة في ممارسة مهنة الطب وحددها في(الكفاءة والفضيلة) (الكفاءة تأتي اولا وتعني مهارة الطبيب في تشخيص المرض وعلاجه واستعمال افضل الوسائل التقنية التي يمكن ان توفرها تكنولوجيا الطب الحديث. وعلى الطبيب المعالج ان يكون عالما ضليعا بهذه التقنيات الطبية الحديثة حتى يستطيع القيام بالتشخيص المادي والعضوي لاعتلالات المريض. لكن على الرغم من ان الطب يعتمد وظيفيا على العلم ليزوده بالأدوات الضرورية الا ان غايات الطب هي اكثر من الانتصار على المرض. ان غاية الطب هي خدمة الانسانية، وتشمل المعاناة والالام العضوية والروحية والاخلاقية للمرضى وهم يتعايشون مع الخوف والاحباط والقلق..) فيليب اوفرباي
عندما يواجه الطبيب مرضا بسيطا نسبيا مثل الالتهاب الرئوي من الممكن ان تظل هذه الاعتبارات الانسانية خارج الصورة، فالكفاءة العلمية كافية ولكن عندما يواجه الطبيب مرضا لا يستطيع شفاءه او لا يستطيع ايقاف تفاقمه، هنا لا يجب ان تتوقف وظيفة الطبيب عند ذلك الحد، لان فضيلة الطبيب وسخائه الروحي وتعطشه للمجد والتميز يمكن ان تقوده الى ما هو ابعد من الحدود التقنية لحقل عمله، وهذا ما يميز الطب عن العلم. فالأطباء يواجهون المرض والمعاناة والالام وكل جوانب الدراما الانسانية بوسائل علمية وغير علمية لشفاء الامراض والنفوس ويتقمصون بذلك ادوار عديدة: معالج – حكيم – مرشد سيكولوجي – رجل دين …وهذا ما يبعده عن مهنة الطب العلمية.
لذلك اقترح الكثير من الخبراء والباحثين والاطباء العالميين ان لا تقتصر المناهج الدراسية في الكليات والمعاهد الطبية على المتطلبات الطبية المعيارية وانما يجب ان يزود اطباء المستقبل بتعليم شامل يجمع بين المعارف والمهارات العلمية والمهنية والتطبيقية والبحثية والمعارف الانسانية من علم الاجتماع والاخلاق والسياسة والادب والفنون لان هذه التربية الانسانية ستساعد الاطباء على معرفة شخصية الانسان في وجوده وسلوكه وطباعه وثقافته وعاداته وايمانه وفراغه ,,, وتساءل العديد من علماء الطب، هل اطباؤنا قرأوا ودرسوا مثلا رواية (الاخوة كارامازوف) لدستويفسكي، او (الملك لير) لشكسبير او كتاب (جمهورية) افلاطون.. وهل تمكنوا من قراءة واستيعاب الكتب السماوية وما تحفل به من شرائع وحكم وقيم واخلاق؟؟؟
ان الطب الحديث سيكون محدودا اذا اقتصر على الالة والمادة، ولم يعالج ذلك النوع من الاسئلة الانسانية والوجودية التي لا يستطيع مرضانا تحاشيها، وان التعامل مع المريض على انه مجرد حالة مادية هو نوع من الاهانة له. لذا علينا ان نستحضر في اذهاننا اوجه القصور الضرورية للعلم الطبيعي فيما يخص الاسئلة الانسانية الاكبر.
ذ: محمد بادرة