ملفات بوليسية – عبد الرزاق مول الدار… ضحية الطبيعة أم جريمة غامضة؟ | قصص عبد الصادق بن عيسى

milafate مجتمع

في أواخر صيف سنة 1999، وبينما كانت الشمس ترسل أشعتها الحارقة على شاطئ حي يعقوب المنصور، كان بعض الصيادين يبحثون عن ملاذ يقيهم من لهيب الصيف. لجأوا كعادتهم إلى مغارة معروفة بين رواد الشاطئ، لكنها هذه المرة لم تكن كما ألفوها. فبداخلها، كانت جثة رجل مجهول تنتصب في وضع القرفصاء، ظهره مسنود إلى جدار المغارة، وسرواله منسدل وحزامه مفتوح، وعورته بادية.

فزع الصيادون مما رأوا، فلم يجرؤ أحدهم على الاقتراب. سارعوا بإبلاغ الشرطة، ليصل بعدها العميد رئيس الدائرة الأمنية الخامسة، ويعاين المشهد. الجثة تعود لرجل في الخمسينيات من عمره، خالية من أي وثيقة تعريف، إذ لم يجد العميد شيئاً في جيوبه. كان واضحاً أن الرجل فارق الحياة داخل المغارة، لكن كيف ولماذا؟ ذلك ما كان على المحققين اكتشافه.

نُقلت الجثة إلى مستودع الأموات البلدي، واستُدعي طبيب شرعي للوقوف على أسباب الوفاة، بالتوازي مع حضور عنصر من مصلحة التشخيص القضائي لأخذ البصمات. كانت نتيجة الفحص الطبي صادمة: الضحية تلقى ضربة قوية على مؤخرة الرأس، مات بسببها على الفور.

عند عرض البصمات على النظام الآلي، تم التعرف على القتيل: عبد الرزاق مول الدار، يسكن في زنقة ساحل العاج رقم 18. لم يكن اسماً غريباً على رجال الأمن، فقد سُجلت عليه عدة اعتقالات بسبب السكر العلني والتشرد. يقول أحد المفتشين إن عبد الرزاق كان يتعمد إثارة المتاعب خلال فصل الشتاء فقط، حتى يُعاد إلى السجن، هرباً من برد الشوارع.

غير أن ماضي الرجل لم يكن شاغل المحققين، بقدر ما كانت ظروف موته الغامضة. فالوضعية التي وُجد عليها جسده، خصوصاً انكشاف عورته، طرحت فرضيتين: هل كان ضحية اعتداء جنسي؟ أم أن له علاقة بأحد الشواذ؟

بدأ البحث وسط مرتادي الشاطئ المعروفين بممارسات مشبوهة، وتم توقيف عدد منهم للتحقيق. الطبيب الشرعي كان قد قدّر أن الجثة بقيت في المغارة لمدة ثمانية أيام قبل اكتشافها، ما ضيّق فترة التحقيق. تم التركيز على رفاق عبد الرزاق من المدمنين الذين كانوا يجالسونه في الشاطئ. كانوا خمسة، وأكدوا جميعاً أن ليلة اختفائه، جلسوا يشربون “كحول الحريق” الممزوج بعصير، وكان عبد الرزاق من بينهم. لم يكن يبدو عليه أي قلق أو انزعاج، ولم يصاحبهم أي شخص غريب.

استمر استجوابهم لمدة 48 ساعة، لكن أقوالهم ظلت متماسكة، دون تناقض. ورغم إخلاء سبيلهم، صدر أمر من النيابة العامة بإبقائهم تحت المراقبة. وفي ظل شح المعلومات، نُشرت مذكرة بحث عن مجهول مشتبه في قتل عبد الرزاق، وأُرفقت صورته وعممت على كافة الأجهزة الأمنية والدرك الملكي بولاية الرباط والمناطق المجاورة.

موازاة مع ذلك، كثّفت شرطة الأخلاق دورياتها على الشاطئ في محاولة لتعقب شبكة دعارة الذكور. ورغم توقيف عدد من المتورطين، لم يربط أي منهم علاقته بالضحية، فظل الغموض سائداً.

ثم فجأة، ظهر خيط جديد. امرأة ادعت أنها زوجة عبد الرزاق، جاءت إلى مستودع الأموات وتعرفت على الجثة. نُقلت إلى المفوضية، وروت للمحققين أن زوجها هجر المنزل منذ سنوات، لكنه كان يزورها مرة أسبوعياً، غير أنه اختفى منذ أسبوعين. بحثت عنه في أماكن تواجده المعتادة دون جدوى.

عرف المحققون منها أن عبد الرزاق خضع قبل سنوات لعملية جراحية في البروستاتا، أدت إلى عجز جنسي لم يستطع تقبّله، فغرق في إدمان الكحول، وأهمل عمله حتى طُرد، ثم تحول إلى متشرد. وعندما سُئلت عن ميوله، نفت الزوجة أن يكون قد أصيب بالشذوذ. طلبت تسلم الجثة لدفنها، لكن الطلب رُفض حتى يُبتّ فيه من طرف الوكيل العام للملك. وبعد اجتماع مع العميد، وتقديم المرأة رسمياً أمامه، أُعطي الإذن بالدفن.

قبل تسليم الجثة، أمر الطبيب الشرعي أحد مساعديه بغسلها، ولاحظ هذا الأخير خروج براز من الجثة أثناء الغسل، وهو أمر غير طبيعي بالنظر لمدة بقائها في المغارة ثم في المشرحة. أخبر الطبيب الشرعي بالأمر، ما دفعه لإعادة فحص الجثة، فاستنتج أن الرجل كان بصدد قضاء حاجته حين فارق الحياة.

هذا المعطى الجديد، الذي يفيد بأن عبد الرزاق مات وهو يتأهب لقضاء حاجته، دفع العميد إلى جمع رفاقه من جديد وتمثيل الوقائع على الشاطئ في وقت الجزر حتى يسهل دخول المغارة. حسب رواياتهم، نهض عبد الرزاق وابتعد عنهم، فظنوا أنه ذهب لقضاء حاجته، لكنه لم يعد.

استُعملت صور الجثة الملتقطة أثناء المعاينة، وأُعيد تمثيل الجريمة. وفي المكان الذي وُجدت فيه الجثة، تم اكتشاف شعيرات وآثار دم. نُقلت إلى مختبر الشرطة العلمية، وفي الأثناء، قام الطبيب الشرعي بحلق شعر مؤخرة الرأس ليكشف عن الضربة. لم تكن بفعل أداة حادة، بل ناتجة عن ارتطام قوي مع صخر المغارة.

تحليل الشعيرات والدم أثبت أنها تعود لعبد الرزاق نفسه. ومع تجميع المعطيات، تبين أن موجة بحر قوية باغتت عبد الرزاق بينما كان يتأهب لقضاء حاجته داخل المغارة، فدفعته إلى الخلف واصطدم رأسه بصخرة، مما تسبب في موته الفوري.

هكذا أسدل الستار على واحدة من القضايا الغامضة. لم يكن هناك قاتل… بل كانت الطبيعة، والموج، والمصادفة، من وقّع على شهادة وفاة عبد الرزاق مول الدار.

التعاليق (0)

اترك تعليقاً