مباشرة بعد تصويت مجلس الأمن الدولي لصالح المقترح المغربي بحل النزاع المفتعل حول الصحراء بالحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، تفضل جلالة الملك بإلقاء خطاب تاريخي، كان في مضمونه يعكس اللحظة التاريخية التي تعيشها قضية وحدتنا الترابية.
وهو ما عبر عنه الخطاب الملكي “إننا نعيش مرحلة فاصلة، ومنعطفا حاسما، في تاريخ المغرب الحديث”.
خطاب الملك، قبل تميزه بمضمون منفتح على بناء المستقبل بتفعيل الاتحاد المغاربي، تميز بنبرة حكيمة، وأسلوب حضاري. نقول ذلك لأن الانتصار في قضية عمرت أكثر من نصف قرن، واستنزفت الميزانيات والطاقات، وفرملت التنمية والمخططات، يكون عادة مصحوبا بحماس التفوق، ونشوة الانتصار. يكون كذلك مقرونا بالتشفي في الخصم، وتبخيس كل مناوراته وربما شيطنة كل أفعاله.
لكن الخطاب الملكي، كان بعيدا عن كل هذا، وكان خطابا يعكس تاريخ دولة وعظمة حضارة امتدت لأكثر من 10 قرون. وهو ما يعكسه ما جاء في خطاب الفتح المبين “فالمغرب لا يعتبر هذه التحولات انتصارا، ولا يستغلها لتأجيج الصراع والخلافات”.
تحدث خطاب الملك عن المحتجزين في مخيمات تندوف، ووصفهم ب “إخواننا في مخيمات تندوف”، واعتبر عودتهم ستضعهم في مقام باقي المغاربة على حد سواء، وهو ما جاء بالحرف والكلمة في الخطاب الملكي “أؤكد أن جميع المغاربة سواسية، لا فرق بين العائدين من مخيمات تندوف، وبين إخوانهم داخل أرض الوطن”. إنها قمة المسؤولية، وهي ليست غريبة على مؤسسة ملكية مهتمة بمواطنيها وحريصة على سلامة البلاد وطمأنينة العباد.
تحدث جلالة الملك عن الجزائر، وخاطب رئيس قصر المرادية مباشرة بذكر اسمه، وباستعمال صفة فخامة الرئيس عبد المجيد تبون. في العرف الديبلوماسي، هذا النوع من الأسلوب يعكس الجدية والإرادة الصادقة والعزيمة القوية. إذا كان ساكن قصر المرادية يفهم في “الأصول” الديبلوماسية، ويتحلى بالمسؤولية الكاملة اتجاه شعب الجزائر، ومستقبل بلاد الجزائر، فإنه سيلتقط الإشارة الحكيمة لجلالة الملك، وسيحذو حذو ملك يشتغل لبناء المستقبل، ويضع يده في يد العاهل المغربي بكل ما تقتضيه روح الإخوة والمصير المشترك.
جاء في خطاب الفتح المبين ” أدعو أخي فخامة الرئيس عبد المجيد تبون، لحوار أخوي صادق، بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة، تقوم على الثقة، وروابط الأخوة وحسن الجوار”. إنه خطاب بنبرة جديدة، وبأفكار واضحة، وأهداف طموحة. تحدث جلالة الملك عن العائدين من مخيمات تندوف، ولم يتحدث لا عن البوليزاريو ولا عن الانفصاليين. إنها رسالة واضحة للواقع الجديد المحصور بين دولتين جارتين وشقيقتين المغرب والجزائر.
بهذا يكون الخطاب الملكي يعكس اللغة الجديدة بعد القرار الجديد لمجلس الأمن الدولي.
وكانت النقطة الأبرز في خطاب جلالة الملك، حديثه عن “التزامنا بمواصلة العمل، من أجل إحياء الاتحاد المغاربي”، وهي رسالة لباقي دول الاتحاد. إنه ليس خطاب قائد المملكة المغربية، بل هو خطاب يتعدى المملكة المغربية من طنجة إلى الكويرة، ليصير خطاب قائد الاتحاد المغاربي، الذي يهتم بباقي شعوب المنطقة بقدر اهتمامه بشعب مملكته.
حديث خطاب الملك عن فترة ما قبل 31 أكتوبر وما بعده، يعكس رؤية ثاقبة بنفَس إيجابي، رغم ما عانته المملكة المغربية من الجارة الجزائر طيلة 50 سنة. إنه تاريخ مفصلي في المنطقة، يحتاج لمسؤولين متشبعين بهموم شعوبهم، وبطموح بناء التنمية الشاملة، وهدف الإقلاع بالمنطقة إلى مصاف الدول الصاعدة. هذا الهدف لن يحققه المغرب لوحده، ولن تحققه الجزائر لوحدها، في عالم تطبعه التكتلات والتحالفات، وفي منطقة مجاورة للاتحاد الأوروبي.
قبل تاريخ 31 أكتوبر، كان قصر المرادية يتنافس مع المغرب في الرداءة والمشاريع الفاشلة وتبذير المال العام لشراء الأصوات من أجل موقف أو تصريح داعم للانفصال. كما أن البلدين أصبحا يتنافسان في شراء الأسلحة على حساب التنمية. قبل هذا التاريخ، كان النظام الجزائري يقوم بمحاولة تبخيس كل إنجازات المملكة المغربية في البنيات التحتية والرياضة والمشاريع التنموية، وفي المقابل كان ينتشي بالحديث عن أي تعثر تعرفه بعض المشاريع. إنها فعلا منافسة لكن في عالم الفشل والرداءة.
بعد تاريخ 31 أكتوبر، نتمنى صادقين، أن ينتقل عقل قصر المرادية في الشقيقة الجزائر، من عقل يتمنى فشل المغرب في نموذجه التنموي حتى يستر عورته في مجال التنمية، إلى عقل يريد بناء المستقبل، وهو البناء الذي يمر عبر تفعيل الاتحاد المغاربي، وعبر المنافسة في النجاح وليس في الفشل.
فهل سنرى بعد 31 أكتوبر مشاريع من قبيل طريق الوحدة ينطلق من موريتانيا ليصل إلى ليبيا مرورا بالمغرب والجزائر ثم تونس. هل نشهد كذلك قطار الوحدة، وانتقال الاستثمارات بين البلدان المغاربية.
هل نشهد على سبيل المثال، شركات مغربية تبني شققا للجزائريين وتستفيد الجزائر من التجربة المغربية، بدل الاستعانة بالشركات الصينية كما هو حال الجزائر اليوم؟ وهل نشهد شركات جزائرية في النفط تستثمر في لاسامير وغيرها في إطار تعاون جنوب جنوب؟
كل شيء متوقف على تعقل العقل الساكن في قصر المرادية.
جلالة الملك، قال كل شيء في خطاب النصر المبين، وسيبقى هذا الخطاب، رمزا لصوت العقل، وكلمة الضمير، ويد البناء وعين المستقبل.
مهما حدث، بعد 31 أكتوبر 2025 هناك حقيقة واحدة تم نحثها في صخرة المستقبل من قبل مجلس الأمن الدولي، عبَّر عنها الخطاب الملكي بالقول “لقد حان وقت المغرب الموحد، من طنجة إلى لكويرة، الذي لن يتطاول أحد على حقوقه، وعلى حدوده التاريخية”.
إنه موقف واضح لما سيكون عليه وضع المملكة الشريفة بخصوص الوحدة الترابية. وبناء وحدة الاتحاد المغاربي رهين بما سيقوم به عقل قصر المرادية الذي ينبغي أن يفهم جيدا مقولة جلالة الملك التي تتحدث عن الانتقال من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير. والتغيير في بناء مستقبل الدول المغاربية، ينطلق من تغيير عقلية ساكني قصر المرادية.
سعيد الغماز-كاتب وباحث


التعاليق (0)