بقلم: أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
( على هامش الزيارة التي قام بها ” علماء الشام ” للجمهورية المزعومة )
يبدو أنّ الضمير( العربي الإسلامي ) في الشام الذي ظلّ غارقًا في سبات عميق طوال خمسين عامًا، قرر فجأة أن يفتح عينيه على وقع صفارة عسكرية قادمة من الغرب الجزائري، ليكتشف متأخرًا جدًا أن هناك شيئًا اسمه “الجمهورية الصحراوية”. هذا الضمير الذي لم تهزّه المآسي، ولم توقظه عقود الشتات، اكتشف اليوم فقط أنّ في الصحراء “قضية إنسانية” تستحق الزيارة… يا لروعة التوقيت!
المشهد برمّته أقرب إلى مسرحية قديمة أعيد عرضها بديكور جديد: وفد من “علماء الشام” يصل إلى المخيمات لتدشين فصل جديد من “التضامن الديني والسياسي”، والوقوف مع ما يسمّونه “نضال الشعب الصحراوي ضد الاحتلال المغربي”. أما الحقيقة، فهي أن الفصل الوحيد الذي شُرع في كتابته هو فصل جديد من فصول الاستغلال السياسي الرخيص الذي يتقنه النظام العسكري الجزائري ببراعة لا يُنافسه فيها أحد.
– خمسون سنة من الغياب… ثم صحوة مفاجئة!
المفارقة الصارخة التي لا تحتاج إلى تحليل سياسي عميق:
-أين كان هؤلاء العلماء طوال نصف قرن؟
هل كانوا في رحلة بحث جغرافي لإيجاد الصحراء في الخرائط؟ أم كانوا ينتظرون التعليمات ليكتشفوا “معاناة اللاجئين” التي لا تحتاج إلى عالم دين بقدر ما تحتاج إلى ضمير سياسي؟
والأطرف أنّ الزيارة تُقدَّم بملصق كبير عنوانه “زيارة إنسانية”.
وكأنّ الإنسانية كانت مختبئة خلف ستار المسرح، تنتظر إشارة من جهة معيّنة لتظهر فجأة في توقيت بالغ الحساسية.
– كسر التعتيم… أم إعادة تدويره؟
الوفد يتحدث عن “كسر التعتيم الإعلامي”، بينما الواقع يقول إنّ الظلام الإعلامي الحقيقي هو ذاك الذي يصنعه من يموّل الزيارة ويُعيد إخراج الرواية نفسها منذ السبعينيات. أمّا “إظهار عدالة القضية أمام العالم الإسلامي”، فهو أمر يدعو للضحك أكثر مما يدعو للتصديق، فالعالم الذي لم يتفق يومًا على رؤية الهلال لن يجمعه بيان سياسي مكتوب في أحد المكاتب الخلفية.
– تبادل خبرات… على حساب ماذا؟
أما الحديث عن تبادل الخبرات في “التعليم الأصيل والشؤون الإسلامية”، فهو مشهد سريالي آخر:
علماء من دمشق وبيروت، وهما موطنان لحضارات علمية تمتد لقرون، يتبادلون “خبرات” مع مؤسسات بالكاد تتجاوز حدود المخيمات. مشهد يشبه محاولة تركيب موسوعة فقهية داخل خيمة لا تتسع إلا لطاولة وشعار سياسي باهت.
– تقوية الروابط… أم توظيف الدين في السياسة؟
وفي ذروة المفارقات، نتلقّى خطابًا عن “تقوية الروابط بين الشعوب الإسلامية”.
وكأن هذه الروابط لم تكن تحتاج طوال عقود إلا إلى زيارة خاطفة كي تُرمم. أو كأن العالم الإسلامي كان يجلس في غرفة الانتظار ينتظر هذه الخطوة ليتمّ “تقوية الروابط” التي لم يضعفها أحد بقدر ما أضعفتها الحسابات السياسية الضيقة.
– الاعتراف بالجمهورية… بوفد يحمل ختم الثكنة
ختام الخبر يقول إن الزيارة “تعزز الاعتراف بالجمهورية الصحراوية”، بينما الواقع أن الاعتراف الوحيد الذي تعززه الزيارة هو اعترافنا المقدّر بقدرة النظام العسكري الجزائري على إعادة تدوير نفس الأسطوانة السياسية واستدعاء رجال الدين لإضفاء الشرعية عليها.
– التوقيت: مفتاح الفهم كله
ويبقى السؤال الذي ينسف كل الروايات الرسمية:
لماذا الآن؟
لماذا بعد أن تم تثبيت حل الحكم الذاتي دوليًا؟
لماذا بعد تغيّر موازين القوى في المنطقة؟
لماذا بعد أن أصبحت الرواية القديمة مجرد صدى بعيد في صحراء تتغير خرائطها الدبلوماسية بسرعة؟
الجواب بسيط:
لأن الزيارة ليست دينية، ولا إنسانية، بل سياسية بامتياز، وتهدف إلى محاولة إحياء ملف فقد الكثير من زخمه وشرعيته.
– وها هنا بيت القصيد…
وإذا كان هدف الوفد تقوية الروابط بين الشعوب الإسلامية ( كما يدّعون ) فالأَوْلى بهم أن يبدأوا من البيت الإسلامي الأقرب: المغرب والجزائر.
وإن كانت نياتهم خيرًا، فليصرفوا “مساعيهم الحميدة” نحو الصلح بين دولتين مسلمتين تتشاركان الدين والتاريخ واللغة والجوار، بدل أن يتحولوا إلى أدوات في مخطط سياسي يعمّق الجرح ولا يداويه، ويوسّع الشرخ بدل أن يقرّبه.
الإنسانية ليست جواز سفر سياسي، ولا تُفعَّل بزرّ سري عندما تشاء الأنظمة.
الإنسانية موقف… وهذا ما لم يظهر في هذه الزيارة.
