بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين ، شتنبر 2025
إن تاج صاحبة الجلالة هو القلم ولم يكن يوما عدسة و لا ميكروفون ، و عرش صاحبة الجلالة هو ما يكتبه الصحفي و يعلق به على ما يقولوه الآخرون وليس أخد التصريحات و اللهفة على الفتات في موائد الأنشطة و الملتقيات .
في زمننا خرج الصحفيون من مكاتبهم ، رموا اوراقهم و كراساتهم في سلة المهملات اسفل درج المكتب ، و تسلحوا بقناعة :” الناس تشاهد ولا تقرأ “, فأصبحت الصحافة ميكروفونات توضع مع علامة الموقع و القناة امام المشاهير للدلالة على نجاح نشاط او شهرة فنان او تأثير سياسي او منتخب .
وسط هذا التوجه ظهر من سماهم العالم بالمؤثرين ، يشتغلون بنفس المرجعيات ولكن برؤية مختلفة ، هم لا يحملون ميكروفونات تحمل علامات المواقع و يقفون خلفها لأخد التصريحات ،لكتهم هم من يعطون التصريحات ،وهم من يعلقون على الوقائع و الاحداث .
الناجحون منهم ،هم من يقومون بالصحافة ـنعم الصحافة ـ الاستقصائية ، فيتكلمون عن موضوع وفق ما اجتمع لديهم من معطيات و توفر لديهم من ارقام و إحصائيات.
حتى الذين يكتبون منهم ، عندما وجدوا موانع الحصول على البطاقة المهنية ـ عندما اصبحت الصحافة مهنة و لم تعد ملكة صاحبة الجلالة ـ سموا انفسهم مدونين .
في إفتتاح ملعب مولاي عبد الله ، كان صحفيو المواقع و حاملوا الميكروفونات يبحثون عن إعتمادات الدخول ،بلا تمييز بين موقع رياضي و موقع إخباري لا ادري ماذا سيفعل على أرضية الملعب غير أخد تصريحات هي من إختصاص القنوات وليس المواقع .
هنا قلبت الدولة القاعدة وهي من بدأت تبحث عن هؤلاء المؤثرين ليقبلوا ان ينشروا على منصاتهم التي يتابعها الملايين مقاطع من الملعب الأيقونة ،
وفعلا وفي وقت قياسي و بفضل المرثرين ،اصبحت صور الملعب حتى قبل انطلاق المباراة تغزو فضاءات التواصل الاجتماعي و منصات عالمية و بكل اللغات التي لن تخطر على بال الصحافة الوطنية .
تماما كما تنظر الصحافة الورقية الى المواقع الالكترونيه التي أعلنت موت الورق ، اليوم اصبحت صحافة الميكروفون تنظر الى المؤثرين انهم يعلنون موت صحافة اخد التصريحات .
الصحافة في المغرب حسم امرها وأصبحت مهنة و ليس مهنية ،مهنة تستوجب شواهد و شركة و تأطمين و ضمان إجتماعي و الحد الأدنى للأجور ، و علامة و تصبح صحفيا ، وبعدها نحدد هل تكتب ام تصور ام تمنتج ام تحقق …
و أصبحنا امام تضارب في المهن ،لأن الصحافة ككتابة كانت من المثقفين الذين كان غالبيتهم رجال تعليم و محامون ، و هم المراسلون الذين يقومون بالعمل الميداني لإبراز إختلالات المجال الترابي وفضح فساد المسؤولين . كانوا مناضلي احزاب يكتبون في جرائد الاحزاب ،وحين تشن حملات الاعتقالات يكون لهم مكان في السجون والمحاضر الملفقة عند الشرطة في الغرف المظلمة زمن القمع والرصاص .
المؤثر رأس ماله الترويج و المشاهدات ، والمواقع هاجسها المتابعات ،و الجرائد تبحث عن القراء في زمن قل فيه القراء .
وعندما يتعلق الأمر بنشاط معين ،فالمنظم يتصرف حسب ما يريد ، إن كان يبحث عن الترويج قصد المؤثرين ،و إن كان يبحث عن نشر خبر على مقاسه قصد المواقع ،و إذا أراد تصريف موقف كانت وجهته الجرائد الورقية …
الى حدود الساعة لم اقرأ مقالا صحفيا من الصحفيين اصحاب البطاقة المهنية يكتبون عن الملعب و كلفته و الشركة التي نالت صفقة انجازه ،و لا عن مرافقه و الخدمات المقدمة فيه ،ولا عن طريق الوصول إليه و لا الخروج منه ، ولا عن المولد الكهربائي كيف يعمل ولا الطاقم المكلف بالتصوير و كيف يصور ،
كل هذا وغيره هو عمل الصحفي قبل أن تشعل الأضواء و ترفع الستارة و يدخل الجمهور ،لاننا ساعتها سنحتاج الى صحافة مختصة في الرياضة تنقل لنا الاجواء و تحلل المباراة و تتعمق في التحليلات.
وهناك صحافة اخرى تجوب نواحي الملعب ترصد الاختلالات في الدخول و الخروج و تتصل بالمسؤولين تستفسرهم و بالمختصين تأخد مقترحاتهم لحل تلك الاختلالات .
إن حملك لبطاقة الصحافة بعد ان اصبحت مهنية ، لا تعطيك الحق ان تسمي نفسك صحفيا بالمفهوم المتوارث عن صاحبة الجلالة ، فقد تكون حامل بطاقة وانت مصور بموقع او تقني مونتاج و لا تكتب سطرا و تسمى صحفيا ،
وانا الذي راكمت تجارب إعلامية جهوية قبل ظهور البطاقة ،مارست الصحافة التي اعرفها كما أمارسها الآن وهي الكتابة عن الظواهر و تعرية الواقع بالمعطيات و الأرقام و المقاربات .
لكنني اليوم مجرد مدون او كاتب رأي و في الطف النعوت :”كائن فيسبوكي ” لان لي صفحة و متابعين …
و قد يكون لي قراء كثر من كل البلدان لكنني لست صحفيا ، و يكون لي تأثير على هؤلاء القراء لكنني لست مؤثرا ، و انشر فيديوهاتي اخاطب فيها الناس لكنني لست مصورا …
غدا ستتنظم ممارسة المؤثرين و سيكون لهم مجلس وطني فيه يتخاصمون ،و ستكون لهم بطائق ، و سيحولون الى مقاولين داتيين ، و سنسمع عن اعتراضات حاملي بطائق الصحافة من حاملي الميكروفون ، تماما كما فعل في السابق حاملوا بطاقة الصحافة من حاملي الاقلام في الجرائد الورقية .
وتلك سيرورة … وتلك ضرورة … وتلك ممارسة لا يمكن ان تكون في بطاقة محصورة ،
صاحبة الجلالة كان تاجها مرصع بالكلمة ،و اليوم هو مرصع بصورة ، ومن يدري ، غدا فسيكون مرصعا بالذكاء الاصطناعي …
فهل تعتبرون ؟
التعاليق (0)