بقلم : أحمد بومهرود باحث في الإعلام و الصناعة الثقافية
هناك شيء يميّز المغاربة عن غيرهم، شيء لا يُقاس بالأرقام ولا يُترجم في التقارير الدولية، لكنه حاضر كنبض خفيّ في تفاصيل الحياة اليومية: روح التضامن. هذه القيمة ليست ترفًا اجتماعيًا ولا ردّة فعل ظرفية، بل هي جزء من تكويننا الجماعي، نمارسها بالفطرة دون تنظير، ونلجأ إليها كلما ضاقت بنا الأرض.
- التضامن… ليس حدثًا بل سلوك حياة
قد يظن البعض أن التضامن يظهر فقط عندما تقع الكوارث أو تشتدّ الأزمات، لكن الحقيقة أن هذه الروح متجذّرة في السلوك اليومي للمغاربة، في الأسواق الشعبية، وفي الأحياء القديمة، وحتى في أبسط المعاملات بين الناس. إنها تلك الجملة التي تتكرر في كل المناسبات: “حنا ديال بعضياتنا”.
هذه العبارة تلخص الكثير: الشعور بأن المجتمع شبكة أمان، وأن الفرد ليس وحده مهما اشتدت عليه الظروف.
- زلزال الحوز… صورة مكثفة لروح أمة
حين ضرب زلزال الحوز قبل أشهر، لم تحتج الدولة إلى إطلاق نداء تعبئة مفتوح. المغاربة تحركوا قبل أن يُطلب منهم، جمعوا المساعدات، حملوا البطانيات والمؤن، قادوا سياراتهم نحو المناطق المنكوبة، وفتحوا بيوتهم للغرباء.
لم يكن ذلك استثناءً، بل كان تجليًا واضحًا لقيمة حاضرة دائمًا لكنها تتوهّج لحظة الحاجة.
لقد غيّرت تلك الأيام مفهوم “التضامن” من كلمة متداولة إلى صورة حية: شاب يحمل فوق كتفيه عجوزًا أخرجها من الأنقاض، نساء من الشمال يخطن الأغطية لأسر في الجنوب، وجوه مجهولة تُسعف بعضها بلا مقابل ولا انتظار للشكر.
- المغاربة… حين تضيق الدنيا يتسعون لبعضهم
من يتجول في المغرب يعرف جيدًا أن قيم الخير ليست مرتبطة بالوفر المالي.
بل كثيرًا ما تكون قلوب البسطاء أكبر من جيوبهم.
فأغلب المبادرات الخيرية التي لا تصل إلى الإعلام ينفّذها أناس يعيشون ظروفًا قاسية هم أنفسهم، لكنهم مع ذلك يجدون مكانًا للآخر داخل معركتهم اليومية من أجل العيش.
إن الذي يشتغل في الأسواق الشعبية، والذي يكدّ بالساعات تحت الشمس، والذي يسافر بين المدن بحثًا عن لقمة عيش، هو غالبًا أول من يمد يده لمحتاج أو يقف بجانب كبير سنّ لا يعرفه.
تلك الأخلاق لا تُعلَّم، بل تُورّث.
- هوية غير مكتوبة
قد يُكتب الكثير عن “قيم المجتمع المغربي”، لكن ما لا يُكتب أكثر:
- كرم الناس مع بعضهم رغم ضيق اليد.
- احترام الكبير باعتباره “بركة الدار”.
- ثقافة “الستر” التي تجعل المغاربة يساعدون المحتاج دون أن يحرجوه.
- ذلك الإحساس الغريب بأن الضعيف ليس عبئًا، بل مسؤولية مشتركة.
هذه ليست شعارات، بل ممارسات نراها كل يوم، في الحافلات، في الأزقة، في المستشفيات، وحتى على بوابات المساجد حيث يحرص البعض على تقاسم الخبز والتمر قبل الصلاة. - لماذا لا يختفي الخير رغم كل شيء؟
في عالم يزداد فردانية وقسوة، يبدو استمرار هذه القيم في المغرب أمرًا مثيرًا للتأمل.
ربما لأن الذاكرة الجماعية للمغاربة مشبعة بحكَم الأجداد، وربما لأن التاريخ الطويل من التعايش والتنوع أفرز حسًا اجتماعيًا قويًا، وربما لأن الصعوبات المتكررة جعلت المجتمع يطوّر آليات تكافل ذاتية لحماية نفسه.
لكن السبب الأعمق هو أن المغربي يرى نفسه جزءًا من الآخر.
ليس مجرد مواطنين يجمعهم تراب واحد، بل عائلة كبيرة تمتد من الشمال إلى الصحراء.
- ختامًا… التضامن ليس فخرًا نظريًا
التضامن المغربي ليس قصة واحدة ولا موقفًا واحدًا، بل هو سلوك يتكرر مئات المرات يوميًا دون كاميرات، ودون تصفيق.
هو المشترك الذي يجعلنا نقاوم الأزمات ونستعيد الثقة في أنفسنا، ويذكّرنا بأن المجتمع لا يُبنى بالقوانين وحدها، بل بما يحمله الناس في قلوبهم.
وفي زمن كثرت فيه الضغوط والاختبارات، يبقى هذا الخير المتدفق هو قوتنا الحقيقية، تلك الطاقة التي تجعل المغاربة على اختلاف طبقاتهم ومناطقهم يُثبتون دائمًا أنهم أبناء وطن واحد… وقلوبهم أقوى من كل الظروف.


التعاليق (0)