لم يعد الحديث عن الفساد في المغرب مجرد خطاب احتجاجي أو ورقة تستعمل ظرفيا في المحطات الإنتخابية، بل أصبح قضية بنيوية تهدد أسس الثقة في المؤسسات وتعيق مسار التنمية. وإذا كان دستور 2011 قد نص صراحة على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، فإن التطبيق ظل في كثير من الأحيان محصورا في قضايا جزئية أو مقاربات إنتقائية لم تلامس بعد جوهر المنظومة التي تغذي الفساد وتجعله واقعا معاشا. غير أن السياق الراهن، يوحي أن المغرب مقبل على فرصة تاريخية لتطهير الحقل العام من شبكات الفساد والإفلات من العقاب، بما يجعل من هذه اللحظة محطة فارقة في إعادة بناء علاقة الدولة بالمجتمع.
اليوم تتكاثف عدة مؤشرات تعكس بداية تحول في المزاج السياسي والمؤسساتي من خلال ما تحمله تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي تكشف اختلالات خطيرة في التدبير العمومي، تقارير لم يعد يسمح أن تبقى محبوسة الرفوف، بل آن الأوان لنفض الغبار عليها أمان تصاعد مطالب المجتمع المدني بفتح ملفات الفساد الكبرى، وتنامي الوعي الشعبي بضرورة المحاسبة كشرط لأي مشروع تنموي حقيقي. يضاف إلى ذلك ضغط الرأي العام عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل التي لم تعد تسمح بإخفاء الفضائح أو طمس الحقائق.
المغرب يجد نفسه قبل أي وقت مضى مدفوعا إلى إطلاق موجة واسعة من المحاسبة تعيد ترتيب المشهد السياسي والإداري المؤسساتي .فهاجس الاستقرار الاجتماعي سيظل عاملا ضاغطا لفتح ملفات الفساد الكبرى حماية للسلم العمومي . في مقبل تقارير دورية لمؤسسات دولية مانحة ولمشاريع إستثمارية ضخمة، تجعل من مكافحة الفساد شرطا لا محيد عنه لجذب رؤوس الأموال وضمان شراكات إستراتيجية.
نعم نحن مقبلون على استحقاقات 2026، وعلى الدولة أن تسعى إلى تقديم صورة جديدة عنوانها الحزم في مواجهة المفسدين، بما يفتح الباب أمام بروز نخب جديدة أكثر إلتزاما بالمصلحة العامة وأقل ارتهانا لشبكات الزبونية والمصالح الشخصية.
إن الرهان الأساسي لا يكمن في “حملة عابرة” أو “حسابات سياسية”، بل في التأسيس لمسار مؤسساتي دائم يجعل من المحاسبة قاعدة للحكامة الرشيدة، ويجعل من الكفاءة معيارا للترقي السياسي والإداري. فإذا أحسن المغرب إستثمار هذه اللحظة التاريخية ، فإنه لن يربح فقط معركة ضد الفساد، بل سيعيد ترميم عقد الثقة بين الدولة والمجتمع، وسيؤسس لمرحلة جديدة قوامها النزاهة والشفافية والعدالة الإجتماعية.
ختاما، المغرب اليوم أمام فرصة نادرة لتفكيك بنية الفساد التي نخرت مؤسساته. لحظة حاسمة، وإلا ستعود شبكات الريع ومافيا الفساد أقوى وأكثر شراسة. إن الرسالة التي ينبغي أن تصل إلى الجميع، مسؤولين وفاعلين سياسيين واقتصاديين، هي أن زمن الإفلات من العقاب قد إنتهى، وأن المغرب الجديد لا يمكن أن يبنى إلا على أسس الصدق والنزاهة وربط المسؤولية بالمحاسبة. إنها لحظة الحقيقة،فإما أن يكون المغرب نموذجا في الإصلاح الجذري، أو يظل أسير حلقة مفرغة من الفساد تعطل إمكاناته وصعوده كقوة إقليمية ودولية جديدة .
ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان
التعاليق (0)