الانتماء موقف لا ملصق: إمّا مع الوطن… أو مع الطامعين فيه

سياسية

عبدالله بن عيسى

ينضج الوعي السياسي حين يميّز صاحبه بين الانتماء بوصفه مسؤولية والانجرار بوصفه عادة. يفرز المشهد اليوم فئتين واضحتين… من يفهم أين يقف ولماذا، ومن يُستَعمل كوقودٍ لحسابات غيره. الأولى تصمد حين تعصف الرياح، والثانية تغيّر جلدها مع أول صفقة أو مكسب عابر.

ينكشف المناضل الحقيقي عند الامتحان، لا عند المنصة. تُسعفه ذاكرةٌ تحفظ العهود، وتردعه بوصلة لا تدور مع رياح المصلحة. أمّا المتسلّق فيبيع الظلّ قبل أن يرى الشمس؛ يُبدّل قناعاته كما يُبدّل شعاراته، يمدح اليوم ما ذمّ بالأمس، ويبرّر غدًا ما أنكر الآن. ذلك ليس اختلافًا مشروعًا، بل خيانةٌ ناعمةٌ لثقة الناس.

يرفض جيلنا الابتزاز العاطفي والسياسي معًا. تعلّم أن التصفيق لا يبني مؤسسات، وأن الولاء للألوان ينهار عند أول سؤال عن النتائج… تعليم يُصلح الواقع لا الصور، صحة تصون الكرامة لا الإعلانات، وعدٌ يهبط إلى الأرض في شكل قانون، ميزانية، وبرنامج مُحاسَب. لذلك لم يعد الانتماء بطاقة عضوية أو وسماً على الأكتاف، بل موقفًا شجاعًا… إمّا صفُّ الوطن أو صفّ الطامعين فيه.

يختبر الوعيُ المواقفَ على ثلاث…أولًا، الثبات عند الكلفة… أن تدفع ثمن رأيك من راحة بالك لا من أرزاق الناس. ثانيًا، الصدق مع الذات… أن تُغيّر موقفك بعلّةٍ مفسّرة وبوجهٍ مكشوف، لا بسرعة النفع وبأقنعةٍ متبدلة. ثالثًا، الانحياز للمصلحة العامة… أن تقيس نجاحك بما يصل إلى الناس لا بما يصل إلى جيبك أو رصيدك الرمزي.

لا يُحرِّر الأوطانَ خطابُ الضجيج، بل عملُ العقل البارد واليد النظيفة. يليق بنا أن نُراجع قاموس السياسة… الولاء ليس طاعةً عمياء، والمعارضة ليست معول هدم. الولاء الحقيقي رقابةٌ تُصلح، والمعارضة الراشدة اقتراحٌ يُبنى عليه. وبينهما يقف المواطن الحرّ… يسائل، يدقق، يُحاسب، ثم يُصوّت وفق بوصلة لا تُشترى ولا تُستأجر.

يختزل الانتهازي السياسة في لعبة مواقع؛ يراها سلّمًا إلى امتيازاتٍ شخصية. أمّا المناضل فيراها عقدًا مع المجتمع… توقيعٌ أخلاقي يسبق التوقيع الرسمي. يَعي أنّ تغيير القناعات ممكنٌ ومطلوب حين تتغير المعطيات، لا حين تتبدّل الولائم. الفارق بينهما أخلاقي قبل أن يكون فكريًا… الأول يطلب الحقّ ليخدمه، والثاني يطلبه ليتّجر به.

لن يستقيم المجال العامّ ما لم ندفع بكلفة الوضوح. فلنُسمِّ الأشياء بأسمائها… من يبيع مواقفه عند أول فرصة ليس “براغماتيًا”، بل متلاعبٌ بثقة الناس. ومن يثبت على مبدأه مع قابليته للتعلّم والتصحيح ليس “متصلّبًا”، بل رزينًا يحترم ذاته وجمهوره. وبين هذين التعريفين تُحسم معركة المعنى.

تنتصر الأوطان حين يتحوّل الانتماء إلى عقد شجاعة… تقول “لا” حيث يجب، وتقول “نعم” حيث ينبغي، وتلتزم بما تقول حين يهدأ التصفيق. عندها فقط يصير الانتماء ميزانًا لا رايةً، وبوصلةً لا زينةً. وعندها نعرف، بلا ضجيج، من كان مع الوطن حقًا، ومن كان مع نفسه على حسابه.