أزمة الفكر التقليدي

a55 كُتّاب وآراء U

أكرمني المولى جل وعلا بزيارة كريمة من طرف جدتي –أطال الله عمرها- لمسكني بالعاصمة. هي امرأة شابت وشارفت الثمانين. قضيتُ معها كل طفولتي وفُتُوتي. تربطني معها علاقة خاصة؛ إذ يطلق علي العارفون بطبيعة تلك العلاقة “إويس نجداس” (ابن جدته)!

هذا الكلام، حتى لا يكون حشوا، وطأنا به لحديث طريف لجدتي: عميق في دلالاته الفكرية؛ وددتُ أن أشتركها مع القارئ.

فوجئت جدتي بكون الغرفة التي أستقر بها “جذابة” و”مغرية” بالنسبة للنفايات والأزبال. يمكن أن تنظفها، لكن بعد برهة وبعد تحرك يسير: يعود “التلوث” لسطح أرضها؛ نظرا لكونه مُعدا ب”الزليج” المُشع.

أعتذر مسبقا للقارئ على فقر معجمي الخاص بعالم “العقار” وآليات “البناء” ومعداته.. ونظرا لذلك سأستدعي لغتي الأم لتسعفني في إيصال فكرتي.

القصة لا تنتهي هنا. بل إن مدار مقالي يكمن في الآتي: تتحدث جدتي لقريبة لي لا تقل عنها طعنا في السن عن حال غرفتي. فتقول بسأم: “الزليج” الذي يكسو سطح غرفته قابل بشكل متعب لجمع الأزبال. وما على المرء إلا أن يجعل بجانبه المكنسة باستمرار.

اسمعوا يا سادة! ماذا تقترح جدتي لكي لا يكون سطح الغرفة مأوى جاذبا للأزبال! إنها تتمنى –لأن حدسها يدرك أن مقترحها يندرج ضمن الأماني ولا أثر له في الواقع- لو تم “تبليط” الغرفة بما نطلق عليه بالأمازيغية (البُوصلان)!

تخيلوا فحوى اقتراح جدتي: إنها تحن ل”سطح”؛ الأرجح أنه كان يُدثر باحات منزلنا في النصف الأول من السبعينات بعدما نزحت الأسرة من القرية إلى مدينة تيزنيت. وأكيد أن سطح المنزل الذي استقرت فيه من الثمانينات إلى اليوم؛ انتقل من الاكتساء ب(لاموزيك) إلى (الزليج) ولا مكان فيه ل(البوصلان).

أُقدر أن الرسائل الثاوية وراء قصة جدتي وحديثها عميقة جدا. هي تؤشر بجلاء إلى أزمة الفكر التقليدي.

إنه النظر إلى مشكلة مستحدثة أفرزتها الحياة الحديثة بعيون قروسطوية. إنه الغرق في الماضي والاستنجاد الدائم به لحل مشكلات الحاضر.

إن التاريخ يسير و لا ينتظر و سننه لا تحابي و لا ترحم!

الإنسان راكم تجربة مهمة في تحسين شروط عيشه وتجويد الراحة التي يوفرها مسكنه؛ انتقل، بعد بذل جهد جهيد، من (البوصلان) إلى (لاموزيك) إلى (الزليج) إلى (الرخام).. ولا عودة – على الأقل: على المستوى النفسي والتفضيلي- من الزليج أو الرخام إلى (البوصلان) في عالم “العقار و البناء”.. وإذا حصل أن أفرز هذا التطور آثارا جانبية سلبية؛ فلا ينبغي أن نستسلم لها، نعم، ولكن.. ينبغي أن نلتمس حلا لها انطلاقا من المعطيات الموجودة والآليات الجديدة والوسائل الحديثة..

هذه الفكرة كفيلة بتحرير العقل المسلم اليوم من مجموعة من المشاهد “المخدوشة” التي تحرمه من رؤية سليمة للحياة المعاصرة والحديثة.

إن المشاكل الاجتماعية و الأخلاقية التي أفرزتها الحياة العصرية هي واقع لكن حلها أو التماس حلول لها لا يكون بالتمني و الحنين إلى مجتمع الماضي لأنه ببساطة الشروط الموضوعية تغيرت..

مثلا: قضية الزي. لا ريب أن مجتمعنا يعيش انقلابا على مستوى القيم المؤطرة لسلوك الناس في اختيار الأزياء التي يشاؤون. ولا شك أن بعض الصادقين والصادقات ممتعضون من اختيارات الناس على مستوى الزي واللباس. لكن الأمر الذي ينبغي وعيه بجدية هو إن أي تفكير في حل مشكلة “انفلات” زي الأجيال الصاعدة لا بد أن يستحضر اللحظة التي نمر بها والزمن الذي نعيش فيه والمناخ الذي نتنفس فيه: لحظة ما بعد الحداثة على المستوى العالمي، زمن الدعاية والإعلام والإقناع ومناخ الحرية و حقوق الإنسان..

إن الذي ينطلق حقا من غيرة حارة على مستقبل الأجيال الصاعدة هو الذي يفكر في الحلول في خضم هذه الشروط وهذه المناخات. إن زمن الإكراه وتوجيه اختيارات الناس بالسلطة الدينية هو زمن يحتضر!

إن المدخل الجديد الذي يستثمر المعطيات الموضوعية الجديدة هو الذي ينطلق من ذات فكرة “الحرية”. إنه الاستماتة في الدفاع عن حرية الإنسان ودرء كل راغب في التحكم و الاستتباع.. إنه الانطلاق في توسيع أمداء هذه الحرية افقيا و عموديا: حرية الإنسان على الأرض وحريته الحق المتجلية في التحرر من كل الأوثان والأهواء والعبوديات والوصايات ليتوجه بالدينونة والإخبات والخنوع له وحده: جل في علاه.
أيوب بوغضن

التعاليق (0)

التعاليق مغلقة.