يُعد الدكتور عبد الحق المريني من أبرز الشخصيات العلمية والثقافية في المغرب المعاصر. فهو يجمع بين الحس الوطني، والدقة الأكاديمية، والبراعة الأدبية. وقد تمكن، عبر عقود من العمل الجاد والملتزم، من أن يخلد اسمه في سجل الرجال الذين أسهموا في بناء الذاكرة الوطنية للمغرب، ليس فقط ككاتب ومؤرخ، بل كذلك كناطق رسمي باسم القصر الملكي، ومؤرخ المملكة، وهو منصب يحظى بمكانة رمزية ووطنية عالية.
إن سيرة الدكتور المريني ليست مجرد مسار مهني، بل هي صفحة مضيئة في سجل التوثيق والتأريخ المغربي الحديث. ومما ميز هذه السيرة، تواضع الرجل رغم تحمله لمهام سامية في القصر الملكي. فكان من السهل الالتقاء به وهو يشتري حاجياته من سوق السمك وسط الرباط، أو رؤيته ينحني لشراء كتاب جديد من الأكشاك في شارع محمد الخامس، أو السلام عليه وهو يرتشف قهوة الصباح في أحد المقاهي وسط العاصمة.
قبل الحديث عن مسار الراحل الذي وافته المنية مساء يوم الإثنين 2 يونيو 2025، لا بد أن نستعرض ولو لمحة موجة عن نشأته وتكوينه العلمي. وهي لمحة رمزية كعربون تقدير وعطاء الراحل لبلادنا.
وُلد عبد الحق المريني سنة 1934 بمدينة الرباط، العاصمة الإدارية والثقافية للمغرب. نشأ في بيئة محافظة، حيث تلقى تعليمه الأولي في الكتاتيب القرآنية، ثم التحق بالتعليم العصري، ليحصل لاحقًا على الإجازة في الأدب العربي من جامعة محمد الخامس، قبل أن يواصل مسيرته الأكاديمية بدراسات عليا في التاريخ المغربي والتراث المخزني.
لقد كان تكوينه العلمي متينًا، يجمع بين الموروث الأندلسي والعربي الإسلامي وبين المناهج الحديثة في البحث التاريخي. وقد انعكس هذا في إنتاجه الأدبي والتاريخي الذي يتسم بالدقة التوثيقية، وحسن اختيار المصادر، والحرص على سرد الوقائع ضمن سياقها السياسي والاجتماعي والثقافي.
بدأ المريني مسيرته المهنية في سلك التعليم، قبل أن يلتحق بعدة مناصب بوزارة الشؤون الثقافية، حيث تولى مهامًا متعددة في مجال التوثيق الثقافي والفني. وخلال هذه المرحلة، عمل على جمع الوثائق والمخطوطات التي توثق لذاكرة المغرب، وكان من بين أوائل من عملوا على إنشاء أرشيف ثقافي رسمي موحد.
في سنة 2014، تم تعيينه ناطقًا رسميًا باسم القصر الملكي، وهو منصب حساس يتطلب من شاغله الجمع بين الكفاءة اللغوية، والدراية السياسية، والحس البروتوكولي. وقد أدّى المريني هذه المهمة بكفاءة كبيرة، متحدثًا بصوت الدولة ومعبّرًا عن التوجهات الملكية بلغة تجمع بين الرصانة والبلاغة.
أما المنصب الأهم في حياته، فهو مؤرخ المملكة المغربية، وهو المنصب الذي أسند إليه ليكون شاهداً وموثقاً للتحولات الكبرى التي عرفتها المملكة، خاصة في عهد الملك محمد السادس. وقد كان سبقه إلى هذا المنصب أسماء مرموقة، غير أن بصمته كانت فريدة بفضل انغماسه الطويل في البحث التاريخي، وارتباطه الوثيق بالمؤسسة الملكية.
لا يقتصر دور عبد الحق المريني على الوظائف الرسمية، بل له مساهمات فكرية وعلمية. فهو في المقام الأول باحث وأديب ومؤرخ. له عدد كبير من المؤلفات تجاوزت العشرين عملاً، تُمثل مزيجًا بين التأريخ السياسي، والتحليل الثقافي، والتوثيق المخزني. من أبرزها:
- الجيش المغربي عبر التاريخ: مرجع مهم يوثق تطور المؤسسة العسكرية المغربية.
- مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث: يتناول تاريخ المغرب من عهد الحسن الأول حتى عهد الحسن الثاني.
- شعر الجهاد في الأدب المغربي: أطروحة أكاديمية تبرز دور الأدب في مقاومة الاستعمار.
- الحسنيات: ديوان شعري في مدح الملك الحسن الثاني، يُظهر الجانب الإبداعي لدى المؤرخ.
- جلالة الملك الحسن الثاني: الإنسان والملك: مقاربة تحليلية وإنسانية لحياة الملك الراحل.
ما يميز مؤلفات المريني أنها لا تكتفي بسرد الوقائع، بل تقدم تحليلاً عميقًا للظواهر، في ضوء التطورات السياسية والاجتماعية، وهو ما يجعل منها مراجع لا غنى عنها في دراسة تاريخ المغرب الحديث.
يُعرف عبد الحق المريني بدقته، وحرصه على التأريخ وفق منهج علمي لا يُخلُّ بالوقائع، لكنه في الوقت نفسه، يُراعي السياق السياسي الوطني. وقد حافظ على الطابع التقليدي للمخزن المغربي، لا سيما في خطابه الرسمي الذي يتسم بلغة عربية فصيحة، مُطعّمة بألفاظ تراثية تُضفي وقارًا خاصًا على التصريحات الرسمية الصادرة عن القصر.
كما أن شخصيته المتزنة، واطلاعه الواسع على التاريخ، جعلاه محلّ تقدير من قبل مختلف الفاعلين الثقافيين والسياسيين، وقد حصل على عدة أوسمة وتكريمات من الدولة، تثمينًا لعطائه المستمر.
إن الحديث عن الدكتور عبد الحق المريني هو حديث عن رجل جمع بين العلم والسلطة، بين الفكر والممارسة، بين التقاليد والحداثة. فهو ليس مجرد موظف سام أو كاتب بلاغات رسمية، بل هو صوت التاريخ وذاكرة الدولة المغربية، الحريص على نقل الحقيقة كما هي، بحياد علمي ورؤية وطنية. وبفضل جهوده ومؤلفاته، أصبح يمثل مرجعًا تاريخيًا وثقافيًا بارزا، يسهم في فهم الماضي، وفكّ شيفرات الحاضر، والاستعداد لمستقبل تنبني فيه الهوية الوطنية على أساس الوعي والمعرفة.
رحم الله الفقد وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.
سعيد الغماز-كاتب وباحث
التعاليق (0)