المشهد السياسي بلا بنكيران: رتابة تُهدد خصومه قبل أنصاره

ben kirane jpg سياسية

لنتجرأ على الخيال، ولنمنح عقولنا لحظة من التأمل السياسي المجرد، ونتصور الساحة السياسية بدون رئيس الحكومة السابق الأستاذ عبد الإله بنكيران. كيف سيبدو المشهد السياسي المغربي؟

دعونا نتخيل مغربًا بلا بنكيران، بلا خطاباته التي أربكت الخصوم، وأثارت الحلفاء، وأعادت الحياة إلى النقاش العمومي. تصوروا معي ساحة سياسية لا نجد فيها سوى تجمعات حزب الأحرار، وخطابات نمطية متكررة، لا نجد فيها سوى صوتا واحدا، صوت المديح ولا شيء سوى المديح: “اليوم أخنوش غير مفهوم السياسة فالبلاد “، “أخنوش أفضل رئيس حكومة في تاريخ المملكة”، “أخنوش صالح المغاربة مع البحر ومع السردين”، وتمثيلية “كيف لا.. وأخنوش هو زعيم الحزب”.

تصوروا معي ساحة سياسية بلا بنكيران وبلا حزب العدالة والتنمية، ولا نجد في الأخبار الحزبية سوى قُفف جود مقابل بطاقة الحزب، وشاحنة الجماعة تُفرغ قفف جود في منزل الناطق الرسمي باسم حكومة أخنوش. كل صباح نستفيق على إدانة المحكمة لمنتخب من أحزاب الأغلبية الحكومية، وعزل رئيس جماعة من الحزب الحاكم، واعتقال برلماني ومتابعة آخرين….

السياسة في المغرب بدون عبد الإله بنكيران، تجربة فكرية قد تبدو بسيطة، لكنها تكشف الكثير عن هشاشة الخطاب السياسي، وضعف التأثير الجماهيري لعدد من الزعامات الحالية.

في غياب بنكيران، تغيب الإثارة، ويُصاب النقاش العام بالركود، وتفقد السياسة طابعها الإنساني التفاعلي.

المفارقة أن أول المتضررين من غياب بنكيران هم خصومه أنفسهم، ممن لا يحققون نسب مشاهدة أو تفاعل إلا حين يكون بنكيران

حاضرًا في العنوان، عنوان غرفة الفار وبرامج عصابة مثلثة الأضلع.

والأغرب هو أن “اللي كايهضر عليه أكثر، هم اللي كيقولو ما كيستاهلش الاهتمام”!
فحتى غرفة الفار والمثلث المتوازي الأضلع لا يستطيعون العيش بدونه.

السياسة ليست مجرد خطط وبرامج، بل هي أيضًا رموز ومواقف وتوازنات نفسية داخل المجتمع.

وبنكيران، مهما اختلفنا معه، شكّل عنصرًا حيويًا في هذا التوازن.

في غياب بنكيران، تصبح السياسة أقرب إلى رتابة تقارير إدارية باردة. تغيب الإثارة، ويختفي التفاعل، وتبقى الشاشات والمواقع تعيد نفس العناوين بلا نبض ولا معنى. في هذا العالم المفترض، كل عناصر الاكتئاب السياسي متوفّرة: لا خطاب صادم، لا مواقف مفاجئة، لا جدل فكري، ولا حتى مواجهة صريحة بين فاعلين مختلفين حقًا.

العيش وسط هذه الأحداث، في غياب خرجات بنكيران، وخطاب رئيس الحكومة الأسبق، سيجعل جميع عناصر الاكتئاب متوفرة لخلق مجتمع مكتئب، قد يكون في حاجة ماسة لرئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني، فهو الوحيد الذي يجمع بين السياسة والطب النفسي. لذلك غرفة الفار لا تستحيي إعلان التضامن مع مؤلف كتاب “الاكتئاب…نحو معرفة أعمق وتعامل أفضل”.

المفارقة العجيبة أن أول من يُصاب بالضرر في حال غياب بنكيران، هم خصومه أنفسهم. أولئك الذين يصفونه بـ”المعزول” و”المنتهي سياسيًا”، وفي ذات الوقت لا يستطيعون العيش بدونه. فهم يخصصون له الحلقات، ويمنحونه أضعاف ما يمنحونه لأي زعيم حزبي آخر. مواقعهم ومنابرهم تحقق أعلى نسب المتابعة حين يكون العنوان: “بنكيران قال”، أو “بنكيران عاد”.

أول من يستفيد من تواجد بنكيران في الساحة السياسية هم خصومه. وحتى الثلاثي الذي يصف نفسه بالعصابة، لا يستطيع العيش دون بنكيران. يصفه بالرجل الضعيف والمعزول، ويخصص له حلقة كاملة لم يخصصها من قبل لأي زعيم سياسي.

هذا الاهتمام ببنكيران، قد يجعل غرفة الفار بدون عمل في عالم نتخيل فيه غياب بنكيران. فأنجح محتوى لديهم هو ذاك الذي يتناول الرجل، بالسخرية تارة، وبالتحليل المزعوم تارة أخرى.

قد يكون “الفار” بأضلعه الثلاثة، أول المتضررين في عالم سياسي يغيب فيه بنكيران. فأنجح برامج الفار، هي تلك التي يتحدث فيها عن بنكيران. والبرامج التي تتطرق للسيد رئيس الحكومة، لا تُحقق ما ترجوه صورة الموقع وصوت المذياع.

ألا يستحق بنكيران تحية عسكرية من طرف غرفة الفار، كتلك التي يقوم بها الجندي؟
حتى من يكره بنكيران، لا يستطيع تجاوز الحديث عنه، وتناول خطاباته عقب كل خروج إعلامي. يبدأ بالتقليل من شأنه، ثم ينتهي بالتحذير من تأثيره. إنه العجز الصامت عن تجاوزه، لا حبًا فيه، بل لأن غيابه يكشف خواءً سياسيًا يصعب ستره.

إنه إكراه بوجهين: وجه الحديث عن بنكيران وشد الجمهور، ووجه تجاهل الحديث عنه وفقدان الجمهور. ورغم الكره الدفين لبنكيران، تجد العصابة بأضلعها الثلاثة، مُكرهة بالحديث عن بنكيران، ولو كانت الأضلع الثلاثة محصورة في زاوية أوسع من “تكشيطة النكافات”.

الواقع أن اختفاء بنكيران لن يكون خسارة لحزبه فقط، بل سيكون اختناقًا لمنافسيه، وغيابه لن يملأه خطاب منمق، ولا قفة مزينة بشعار “جود”.

إنه الرجل الذي مهما اختلفنا معه، يبقى الوحيد الذي يقول الأشياء كما هي، لا كما يريدها مستشارو الصورة.

في نهاية المطاف، خصوم بنكيران هم أكثر الناس حرصًا على بقائه، وإن ادّعوا عكس ذلك. ليس حبًا فيه، بل لأنه يضمن لهم مادة يومية، ونقاشًا جماهيريًا، وجمهورًا يضمن استمرارهم. فهل يُشكر بنكيران من قِبَلهم؟ لعل الجواب الإيجابي هو ما يخشون الاعتراف به علنًا.

السياسة بدون بنكيران يكون الخاسر فيها هم خصوم رئيس الحكومة الأسبق، ويكون الأحرص على بقاء بنكيران هو خصومه خاصة قاطني وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي. فهم يعرفون أكثر من غيرهم، أن غياب بنكيران سيجعل السياسة كئيبة، وخطاب رئيس الحكومة لا يهتم به العموم، وهو ما سيجعل الإعلامي والصحفي والاستاذ الجامعي الذي تخلى عن تكوينه الأكاديمي ليتحول إلى محلل يبيع الحقيقة كما يُباع ديبلوم الماستر، يدخلون في حالة اكتئاب إذا فقدوا جمهورا يتابعهم، ليس لكي يستفيد من كلام لا هو ثقافة ولا هو تحليل، ولكن “على ود بنكيران”.

وإن شئنا الصراحة: السياسة المغربية في غياب بنكيران تصبح مشهدًا صامتًا، كأنك تشاهد مسرحية بلا ممثل رئيسي، فقط ديكور باهت وخطابات محفوظة.

فحتى من يكره بنكيران، يحتاج عبد الإله بنكيران. وحتى خصومه لا يستطيعون العيش بدونه.


مقالات ذات صلة

التعاليق (0)

اترك تعليقاً