قلما تناول التاريخ بالتوثيق سير نساء السلاطين العلويين، بحيث ظلت حياتهن خلف أسوار القصر محاطة بالسرية وبهالة من التكتم، حياة لم يستطع لا الأبناء ولا الأحفاد أن يكشفوا عنها الستار كاملا، وظلت جزءا منسيا من محطات تاريخية في حياة الملوك، لكن في مقابل ذلك، تمكنت نساء أخريات من أن يتناولن هذه الحياة بالتفصيل، نساء عشن قريبات جدا من زوجات الملوك وأمهاتهم، بل قريبات جدا من الملوك أنفسهم، بكيفية أصبحت فيها الكثير من هؤلاء النسوة المميزات فعلا راويات لسير زوجات الملوك في حياتهن العادية خلف جدران القصر.
نساء تحولن كذلك إلى مؤرخات بحكاياتهن الشخصية لمراحل من تاريخ المغرب، ولأحداث قادمة من كواليس الحياة اليومية للملوك وزوجاتهم، كما عكستها مسعودة وياقوت وعائشة وأخريات في مسار مثير حملهن للعيش داخل البلاط السلطاني حتى النفس الأخير، في مسار غني لعبت فيه الصدفة دورا مثيرا في أول خطوة نحو العيش داخل حياة الملوك الأخرى بالقصر.
نساء عاديات حولتهن حياتهن المهنية داخل البلاط إلى نساء غير عاديات، قبل أن تحولهن السنون الى مؤرخات من عيار ثقيل حينما اختلط مشوار حياتهن كنساء في خدمة القصر بمسار ملوكه وزوجات هؤلاء الملوك أيضا.
حين تحدث غابرييل فيير عن علاقة ثماني سنوات كمصور وصديق للسلطان مولاي عبد العزيز لم يستطع أن ينفذ إلى كواليس القصر في ما يخص عالم نسائه، اللهم إلا إشارته إلى كون مولاي عبد العزيز كان لا يقدم على أي أمر دون استشارة والدته الشركسية للا رقية. حياة لم تنفذ إليها حتى أكثر الكتب إثارة التي تنافس الأجانب على إصدارها، ومنها “المغرب المنقرض” لصاحبه ” البريطاني والتر هاريس” الذي التقى السلطان الحسن الأول.
نساء أثرن وتأثرن بحياة أدخلتهن البلاط، فأصبحن جزءا من أسرته، لدرجة التحكم في مجرى بعض القرارات، كما هو الشأن بالنسبة لليهودية المغربية مسعودة التي دخلت التاريخ من باب القصر منذ أن ولجته لأول مرة لتقوم بخدمة والدة محمد الخامس، مسعودة العمة التي كانت وراء حكاية ميلاد كتاب “خياطو السلاطين” الذي ترجم مؤخرا إلى اللغة العربية كتبته شفاهيا بقلم ابن أخيها ألبير ساسون حفيد خياط ستة ملوك كانت بطلته بامتياز، فيما ظلت حكايات أخرى بالإضافة لما جاء في هذا الكتاب الذي أهدى صاحبه نسخة منه للملك محمد السادس موزعة هنا وهناك، موشومة داخل أفئدة وذاكرة أناس آخرين ما كان ليعرفهم أحد لولا ما رووه لأبنائهم، ومنهم الخياطة أليس بنزاكور، خياطة القصر التي مازال ابنها يحتفظ بصورتها أمام محلها للخياطة في سنوات نهاية الأربعينيات، ويحكي إلكترونيا ما بقي عالقا من أثر ذلك في الذاكرة.
الحســن الثانــي يتحــدث عن نســاء القصــر
“إنني تعلمت كثيرا من عقائد الإسلام وتمرست بأداء شعائره على يد أهل بيتنا وخادماته قبل أن يلقنني إياه أستاذ، عندما فتحت عيني على الحياة وبدأت أعقل كنت أرى نساء دارنا يذهبن عقب كل أذان- وقد وضعن التخاميل على أذرعهن- إلى مكان الوضوء استعدادا لأداء الصلاة، وكان بداخل دارنا إمامان، يؤم أحدهما بالسيدات ومن حضر معهن من الخادمات في مصلى خاص، ويؤم الثاني بالخادمات في مصلى ثان يوجد قرب مكان عملهن، وكانت المرأة من أهل دارنا إذا أبدت رغبتها في حفظ القرآن وتعلم قواعد الدين أجيبت إلى رغبتها فورا: يعطى لها لوح خاص يكتب فيه الفقيه سور القرآن وأحكام الدين، فإذا حفظت ما فيه، محي وكتب فيه مرة أخرى شيء جديد، وهكذا دواليك، أما المراضع والدادات اللاتي كن يخدمنني فقد تعلمت منهن في صباي الباكر الشيء الكثير، فهن اللائي علمنني رد التحية وتشميت العاطس والتسبيح عند سماع الرعد ورؤية البرق، والتلفظ بكلمة الشهادة عند الدخول إلى الفراش للنوم.
ومازلت أتذكر قيامهن للتسحر في ليالي رمضان، كنت أراقب أعمالهن عن كثب، وكثيرا ما كنت أرغبهن في إعطائي شيئا من سحورهن فكنت آكله بشهية وأتذوقه بلذة وأشعر أنني أساهم بذلك في صيام رمضان، وقد أبصرتهن في ليلة من الليالي يقمن بحركات غير عادية ويحضرن مواد غير مألوف إحضارها إلا في المناسبات، وكانت الليلة ليلة السابع والعشرين من رمضان، فسألت الدادة عن معنى ذلك، فقالت “عندنا الليلة سيدي قدر!” فقلت: ومن سيدي قدر؟ فقالت “عند طلوع الفجر تفتح أبواب السماء، ويتجلى سيدي قدر، فمن سأله شيئا في ذلك الوقت أعطاه ما يريد”.