لسنا أغبياء، بل نحن نفهم الأمور جيدا ونعرف كيف تُطبخ الطبخات السياسية على نار هادئة في مقاهي الفخارة، نعم، تلك الجلسات التي تُعقد بين الأعيان والسياسيين تحت غطاء “التزكية” والولاء، هي في حقيقتها مجرد مشروع تخريب بغطاء شرعي.
عندما يتولى الأعيان دور الأحزاب، فاعلم أن اللعبة قد بدأت، هؤلاء الأعيان الذين يُشرفون على العملية السياسية كما يشرف الطباخ على إعداد وجبة دسمة، لا يهتمون بالبرامج الحزبية ولا بالقرارات التي تُصدرها المجالس، بل كل ما يهمهم هو الولاء للشخص الذي يجلس على رأس الطاولة، وليس للمصلحة العامة.
والأمر لا يقف عند هذا الحد.. عندما ترى تشكيل مكاتب المجالس ولجانها يتم في مقاهي الفخارة أو في ضيافة الأعيان، فاعلم أنك تشاهد فصلا جديدا من مسرحية الكوميديا السياسية السوداء، ما يُعقد في تلك الجلسات هو إما تسوية مصالح شخصية أو إعداد لخطط تدمير ممنهجة للمؤسسات السياسية التي من المفترض أن تخدم المواطن، لكنها في الواقع تخدم جيوب الأعيان ومن يلوح لهم بالولاء.
لكن السؤال الحقيقي هنا هو: لماذا يتهافت الأعيان على تكوين تلك المجالس التي يُزعمونها هم؟ ما الذي يجعلهم يتدخلون بهذا الشكل السافر في الشأن المحلي؟ الإجابة ببساطة تكمن في السلطة والمال.
هؤلاء الأعيان يعلمون جيداً أن من يملك مفاتيح المجلس الجماعي أو الإقليمي يملك السلطة على المشاريع، على الميزانيات، وعلى القرارات التي تُحرك عجلة التنمية (أو بالأحرى تجمدها)، تدخلهم ليس بدافع المصلحة العامة، بل بدافع السيطرة على موارد ومقدرات المنطقة، وضمان استمرارية مصالحهم الخاصة.
ومما يثير الضحك حقاً هو عندما يتحول أحد هؤلاء الأعيان إلى “أب الجميع”، ويناديه الأعضاء بلقب “بابا الحاج”، في صورة تجعل من السياسة مهزلة حقيقية، ترى الجميع يتسابقون لنيل رضا “بابا الحاج”، فيتحول من مجرد وجيه إلى الحاكم الفعلي الذي يُملي الأوامر ويقرر مصير المدينة والمنطقة كما لو كان ملكاً متوجاً في مملكته الخاصة.
ولنكن واضحين: لو كان هناك حقا إرادة للتغيير وإعادة دور المؤسسات إلى ما يجب أن تكون عليه، لكان تحقيق بسيط من طرف السلطات الوصية كفيلا بكشف كل ما يحدث في تلك الجلسات السرية، ستظهر الحقائق، وستظهر معها الأسماء الكبيرة التي تُحرك الخيوط من خلف الستار، ولكن هل هناك فعلا إرادة؟ أم أن كل شيء يبقى مجرد شعارات تُرفع في المناسبات الرسمية؟
السياسة لم تعد سياسة، بل تحولت إلى وليمة تُعقد في مقهى، حيث تُطبخ فيها القرارات على نار خافتة، وتُمرر فيها الصفقات تحت الطاولة، ومادامت الأمور تُدار بهذه الطريقة، فليعلم الجميع أن التغيير الحقيقي بعيد كل البعد عن متناول أيدي المواطنين، وأن المؤسسات ستظل مجرد ديكور في مسرحية عبثية، أبطالها الأعيان وكومبارسها الشعب.
عبدالله بن عيسى