في تدوينة مثيرة، تناقلتها بعض المنابر الإعلامية، تحدث الصحافي توفيق بوعشرين، عن الصحافة والدولة. هذه الثنائية، على مدى عصور، ومنذ ظهور مهنة اسمها الصحافة، شكلت معضلة بقيت تتأرجح بين سُلَّم يربط بين الدولة والصحافة. الدولة تريد النزول بالصحافة إلى الدرجة الأولى من السلم، والصحافة تريد الصعود إلى آخر درجة في نفس السلم. فنشأ صراع، لم تجد له كل مؤسسات الدولة حلا يفضي إلى التعايش السلمي بين الاثنين. وتعثرت كل المدارس الإعلامية والصحافية، في إنتاج أدبيات من شأنها الابداع في هذه العلاقة المعقدة بين الصحافة والدولة.
لا وجود لصحافة حرة دون مسؤولية، لأن الصحافة ليست كلمة فحسب، بل هي قلم قادر أن يَخْرُج من حبر الورق، ليتحول إلى سلاح قد يقتل الأخضر واليابس في أرض الواقع. إنها صحافة تشكل خطورة كبيرة على الدولة، وقد تبدو ظاهريا تخدم مصلحة الشعب والوطن، لكنها لا يمكنها التحكم في مجريات الأحداث التي قد تكون سببا فيها. من هنا نتحدث عن عامل المسؤولية، الذي يجب أن يكون حاضرا بقوة في الصحافة الحرة. وكلما اتسعت مساحة الحرية الصحافية، تتسع معها كذلك مساحة المسؤولية. وهي القاعدة الذهبية التي لا يمكن فصلها عن الممارسة الصحافية.
أما الصحافة الفاقدة للحرية، فلا مجال للحديث عن المسؤولية، لأنها في الأصل، صحافة فاقدة لأي فعل مرتبط بالمسؤولية. فقلمها لا يمكن أن يتحول لسلاح يقتل في أرض الواقع، وبالتالي فهي لا تشكل خطورة على الدولة. لكنها تشكل خطورة على الشعب والوطن، لأنها تنشر تحت الطلب، وتكتب بعد أداء الثمن. وإذا استطاعت الوصول لعقول الشعب وذكاء الوطن، فهي لن تخلق سوى التراجع إلى الوراء، والتخلف عن بناء المستقبل. وكلما ازدادت سلطة هذا النموذج من الصحافة، ازدادت معه مسافة التخلف عن الركب، وتعمقت مسافة الرجوع إلى الخلف.
هذا ما وقعت فيه المجموعة التي تصف نفسها بالعصابة. فالقلم الذي يكتب بدون لغة خشب، قد يُخفي غابة من آراء الخشب، لن تخلق سوى واقعا إن لم يصمد في مكانه، تراجع إلى الوراء، لأنه لا يملك سبيل الدفع بالمجتمع لما هو أفضل، وما هو في صالح الوطن.
بين صحافة الدرجة السفلى، والدرجة الأعلى في سُلَّم الدولة، نجد مسافة الأمان التي تحدث عنها الصحفي توفيق بوعشرين، في تدوينة نشرها على صفحته في الفايسبوك. هذا الأخير تحدث عن كون الصحافة “حرية ومسؤولية، مهنة ورسالة، قلم ومكروفون وشاشة، ومعها، أو قل قبلها، حِرفية وتقاليد وأعراف وثقافة وحس نقدي” ويضيف قائلا “ومسافة أمان اتجاه كل صانعي الأخبار والسياسات والقرارات والمصائر، وهذا لا يجعلها بالضرورة جبهة معارضة، ولا منصة رفضٍ لكل ما يأتي من الدولة”.
لم تعد ثنائية الحرية والمسؤولية هي التي تحكم علاقة الصحافة بالسلطة، بل إن الأحداث التي وقعت أثناء الربيع العربي، والواقع الجديد الذي خلقته هذه الأحداث، جعل الثنائية التي تحكم الغريمين، تتطور لتخلق واقعا جديدا. تلك الأحداث، جعلت العلاقة التي تربط الصحافة بالسلطة، تتطور من ثنائية الحرية والمسؤولية، إلى ثنائية الحرية والاستقرار.
بقيت الصحافة على العهد، تُطالب بتوسيع مجال الحرية الصحافية، وتحولت مطالب الدولة من المسؤولية في النشر الذي جعلته من اختصاصها، إلى ضمان الاستقرار، الذي لم يعد مسؤولية الدولة لوحدها، بل هو مسؤولية السلطة والصحافة معا. هذه المسؤولية المشتركة بين السلطة والصحافة، حول الاستقرار، أصبحت تفرض على القلم الصحفي، الالتزام بمسافة الأمان، على حد قول الصحافي بوعشرين، اتجاه كل صانعي الأخبار والسياسات والقرارات والمصائر.
هكذا يمكن للصحافة أن تتحول من الرقابة الذاتية لتجنب الصدام، إلى رقابة الالتزام، لضمان الاستقرار.
سعيد الغماز