لا شك أن المرأة في مجتمعنا العربي والمغربي خصوصا لازالت تعاني من العنف بشتى أنواعه، (المعنوي، الجسدي، الجنسي، الإقتصادي…) وذلك راجع بشكل عام لمعطيات عديدة، ترجع بدورها لثقافة متأصلة في المجتمع.
وعندما نتحدث عن النساء اللواتي يعانين من أمراض نفسية أو عقلية، فالمعاناة في هذه الحالة تتضاعف، خصوصا إذا نشأن في بنية تفتقر لمعايير احترام المرأة وتقديرها.
العديد من هؤلاء النساء والفتيات (اللواتي يعانين من أمراض نفسية وعقلية)، يتم تزويجهن بشكل قسري لأزواج لا يراعون مرضهن، ويتعرضن لشتى أنواع العنف كما يتم تطليقهن بدون تحصين أي حق من حقوقهن.
وفي حوار مع السيدة عائشة، وهي أم لفتاة تعاني من الصرع والاكتئاب قالت : ” لقد ارتكبنا خطأ فادحا حين أقدمنا أنا وزوجي على تزويج ابنتنا البكر، حيث أصيبت بمرض الصرع وهي في سن الثامن عشر، كما ظهرت عليها أعراض الاكتئاب بعد ذلك، خصوصا أن نظرات المجتمع لها كانت غير جيدة وكان الأقارب ينفرون منها، لكن عندما بلغت ربيعها العشرين، أصر والدها على تزويجها، خصوصا أن أغلب صديقاتها اللواتي كن في نفس عمرها قد تزوجن”.
وأضافت عائشة : ” تعرف زوجي على شاب كان يشتغل معه في البناء، حيث فاتحه الشاب في الموضوع باعتبار أنه يريد أن يتزوج ويبحث عن فتاة يرتبط بها، واقترح الزواج من ابنتي، ولم يتردد زوجي في الموافقة على ذلك، حيث أعطاه موعدا للقدوم للبيت هو وعائلته، بالطبع أنا لم أوافق خصوصا أن ابنتي كانت قد بدأت علاجها منذ فترة قصيرة وهي كذلك لم تكن موافقة على الأمر، إلا أننا استسلمنا أمام قرار زوجي”.
وتابعت عائشة : ”الخطأ الثاني الذي ارتكبناه هو عدم إخبار طليق ابنتي بمرضها، حيث سارع زوجي لإتمام إجراءات الزواج وأقمنا عرسا بسيطا جدا نظرا لحالتنا المادية لتلتحق بذلك ابنتي ببيت زوجها”.
واسترسلت ذات المتحدثة : ”المعاناة بدأت منذ الأسبوع الثاني من الزواج، حيث أصيبت ابنتي بنوبة من الصرع تبعتها حالة اكتئاب كبيرة نظرا لعدم شربها للدواء لأكثر من أسبوع، حيث كانت خائفة من إخبار زوجها أن يشتري لها الدواء وبالتالي ينكشف أمرها، لكن بعد علمه بالأمر ثار في وجهها وفي وجه زوجي كذلك، وتغير تعامله معها، إذ رغم أنه كان يشتري لها الدواء من حين إلى آخر، إلا أنه كان يعنفها يوميا بشكل لفظي معتبرا نفسه ضحية، ثم قرر تطليقها”.
وأضافت : ”بالطبع لم نعارض مسألة الطلاق، فقد عادت ابنتي إلى البيت وهي الآن تواظب على تناول الدواء في وقته، ونحن نحاول أن نوفر لها البيئة السليمة للعلاج، خصوصا أننا ندمنا أنا ووالدها على تزويجها بذلك الشكل”.
كان هذا أحد نماذج الزواج القسري للفتيات اللواتي يعانين من أمراض نفسية وعقلية، وهو نموذج حافل بمجموعة من المعطيات القانونية والنفسية والاجتماعية التي تستحق البحث والدراسة لإيجاد حلول واقعية قصد إيجاد حلول لظاهرة الزواج القسري للفتيات من هذه الفئة.
ورغم أن مدونة الأحوال الشخصية المغربية تنص في المادة 23 على ضرورة توفر الشخص الذي هو بصدد عقد قرانه سواء كان ذكرا أو أنثى على عقل سليم، فقد لاقت هذه المادة انتقادات واسعة من قبل المدافعات والمدافعين عن حقوق المرأة، التي تعتبر غالبا هي الضحية الأولى في مثل هذه الحالات.
وتعليقا على هذا الموضوع، قالت عائشة سكماسي، المديرة التنفيذية لجمعية صوت النساء المغربيات، أن “تزويج الفتيات اللواتي يعانين من أمراض نفسية مشكل مطروح منذ مدة طويلة، إذ ناضلنا باستمرار من أجل إيجاد صيغة حقيقية عملية ومنصفة للمرأة في مدونة الأحوال الشخصية، في ما يخص تزويج المجنون والمعتوه (الصيغة التي كانت مكتوبة في مدونة الأحوال الشخصية)، حيث مازالت المدونة تتناولها بشكل آخر، إذ تعطى فيها الصلاحية للقاضي، ونحن نعتبر ذلك حيفا وتمييزا في حق النساء، لأن مؤسسة الزواج هي مؤسسة مقدسة وهي مسؤولية، عبرها نربي أجيال، ولهذا لا يمكننا أن نبني أسرة وأساسها يحتاج لعناية خاصة ويحتاج للإهتمام به ولمن يتكفل به، إذ كيف يمكن أن نطلب من امرأة تحتاج لعناية خاصة أن تقوم بالتزاماتها كربة أسرة، بمعنى أن هذا الأمر مرفوض وغير مقبول والحقوق الإنسانية للنساء تتنافى مع هذا الطرح المتعلق بتزويج الفتيات اللواتي يعانين من أمراض نفسية وعقلية”.
وفيما يتعلق بالإحصائيات الخاصة بهذه الشريحة من النساء، تقول عائشة سكماسي: ” للأسف بشكل عام لا توجد إحصائيات واضحة متعلقة بهذا الموضوع على المستوى المغربي، حيث إن الوصول لها يعتبر أمرا معقدا جدا، وبشكل خاص لا أعتقد أن هناك أصلا إحصائيات خاصة بهذه الشريحة من النساء، وأعتقد أننا بحاجة لدراسة كبيرة متعلقة بهذا الموضوع الذي نادرا ما يطرح للتداول والنقاش”.
وشددت ذات المتحدثة على أن “من واجب الأسر أن تحمي هذه الشريحة من النساء، بعدم تزويجهن قسرا، وبالانخراط في عملية العلاج والمساهمة فيها، لكن قبل ذلك يجب على الدولة أن توفر الظروف المواتية لهذه الشريحة من النساء بتوفير العلاج المجاني”.
وأضافت : “من حق هؤلاء النسوة أن يتمتعن بعلاج ورعاية كاملة، وعندما أتحدث عن الحق فأنا أقصد هنا الدولة، التي يجب عليها أن توفر الصحة النفسية والمواكبة للنساء المعنيات، كما يجب عليها أن تضع قوانين وتنظيمات لحمايتهن”.
من جهة أخرى تقول فريدة الرحموني، المتخصصة في علم النفس وفي علم الضحايا أن ”الزواج القسري بشكل عام له آثار سلبية على صحة المرأة، إذ انه عندما يتم تزويج المرأة أو الفتاة بدون رغبتها، فهي أولا تتعرض لاغتصاب زوجي وقد تتعرض لشتى أنواع العنف الزوجي، وسيكون التأثير النفسي على الزوجة كبيرا وقد يتمثل في إصابتها بالإحباط أو الاكتئاب أو فقدان الثقة في النفس وعدم الإحساس بالأمان، وقد تتعرض كذاك لكوابيس تمنعها من ممارسة حياتها وأنشطتها الطبيعية كالأكل والشرب وغيرها”..
وأشارت فريدة إلى أنه “عندما يتم تزويج المرأة التي تعاني من مرض نفسي أو عقلي، فإن تلك المعاناة ستتضاعف، حيث سيؤثر العنف الزوجي بشكل أكبر على الزوجة، التي لا تملك موارد نفسية وعقلية تساعدها على المشي قدما وعلى مواجهة العنف”.
وأضافت الرحموني أن “الحالة النفسية لهؤلاء النساء ستتأزم، وأكثر من ذلك قد يصبن بأمراض جسدية، كالأمراض العصبية، وقلة النوم، ومن الممكن أن يفكرن في الانتحار، وقد تتضاعف تلك المعاناة بشكل كبير في حالة الحمل والولادة”.
وشددت ذات المتحدثة على أنه “من واجب الزوج مساعدة زوجته على تلقي العلاج، وأن ينخرط معها في رحلة علاجها، وبالطبع أن يأخذ بعين الاعتبار ردود أفعالها التي قد تكون ناجمة عن نوعية المرض الذي تعاني منه”.
وأوضحت المتحدثة ذاتها أن “على الأزواج أن يكونوا على دراية بالمرض النفسي لزوجاتهن، بالبحث والدراسة واستشارة المتخصصين، وأن يحاولوا توفير محيط يضمن الاستقرار النفسي للزوجات”.
علم الاجتماع بدوره قدم تفسيرات لظاهرة تزويج النساء اللواتي يعانين من أمراض نفسية وعقلية، حيث قال الدكتور طيب العيادي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القنيطرة : ” للحديث عن هذا الموضوع ولمحاولة إيجاد تفسيرات سوسيولوجية له، لابد أولا أن نتطرق لمعنى الزواج على المستوى المجتمعي، فالفتاة في مجتمعاتنا العربية والمشرقية خصوصا، إذا لم تتزوج تعتبر ميتة مجتمعيا وغير معترف بها، إذ أنه يتم الاعتراف بالمرأة في بداية زواجها، حيث يتم النظر بنقص للمرأة غير المتزوجة وتعير بتأخرها في الزواج وكأنها هي المتسببة في ذلك، فالفتاة التي مازالت في كنف أسرتها تعتبر غير حية اجتماعيا، لذا يعتبر الزواج هنا مصيرا لا بد منه لأي فتاة”.
وأضاف طيب العيادي : ”هذا المعنى المجتمعي للزواج هو لا ينفصل عن الموضوع المطروح والمتعلق بتزويج الفتيات اللواتي يعانين من أمراض نفسية أو عقلية، ولذلك الفتاة التي تعاني من هذه الأمراض يجب الخوف عليها أكثر قياسا بالذكر، إذ من الممكن للشاب الذي يعاني من أمرض نفسية أن يتقدم للزواج من أي فتاة يختارها دون لومه على ذلك، عكس المرأة التي تحاول أسرتها إخفاء مرضها النفسي وأن يبقى ذلك سرا مقدسا لأن ذلك قد يهدد حياتها ومصيرها المرتبط بشكل ميكانيكي بزواجها، إذا هنا نلاحظ حضور المنظور الذكوري بشكل قوي في مجتمعاتنا”.
وعلى مستوى آخر، يسترسل الخبير ذاته : “هناك في مجتمعاتنا نوع من عدم المصالحة مع المرض النفسي بشكل عام وبأكثر حدة وشدة حينما تصاب به الفتاة، حيث يتم إخفاء هذا الأمر ولا يتم اللجوء لمتخصصين وأطباء خشية تسرب الخبر للمحيط، وبالتالي يتم اتهام الفتاة بالجنون وتفقد تلك الأهلية التي تؤهلها للزواج، ومع إخفاء الأمر تتضاعف معاناة الفتاة المصابة بشكل كبير، وما يزيد الطين بلة هو أن يتم إخفاء المرض النفسي للفتاة وفي نفس الوقت يتم تزويجها دون إخبار الزوج بذلك، وبالتالي لن يتعامل الزوج مع زوجته المصابة بمرض نفسي كما يتطلب الأمر، وربما تتعرض للتعنيف وقد يسبب لها ذلك مضاعفات”.
وتابع الدكتور قائلا : ”المجتمع المغربي والعربي عموما لا ينظر للمرأة على أنها إنسان له حقوق، بقدر ما ينظر لها باعتبارها عبئا اجتماعيا واقتصاديا يجب التخلص منه”، مضيفا : ”هنا ينتهي الأمر بتلك المرأة التي تم تزويجها بشكل قسري وهي تعاني من مرض نفسي، باستسلامها للأمر الواقع وتعاني طيلة حياتها، أو بتطليقها والعودة مرة أخرى لنقطة الصفر مع عائلتها وتأتي حينها بوصم مركب وهو المرأة المريضة نفسيا والمطلقة، وهذا الأخير هو من الشرور الاجتماعية التي تحاول كل الأسر في مجتمعنا تجنبه”.
وخلص العيادي إلى أن ”المنظور السوسيوثقافي هو ما يفسر لنا هذا السعي لتزويج الفتيات بشكل عام واللواتي يعانين من أمراض نفسية وعقلية بشكل خاص”.
وبالنسبة لآثار تزويج الفتيات اللواتي يعانين من مرض نفسي على المجتمع، فقد أوضح العيادي أن : “خطورة تضاعف المرض الذي تعاني منه الفتاة تبقى أمرا قائما، فضلا عن أن الزوج قد يحس بالتدليس في حال إخفاء مرض زوجته من قبل عائلتها قبل الزواج، وقد يصاب هو بدوره بمرض نفسي جراء هذه التجربة، التي قد تعتبر صادمة بالنسبة له، وربما قد يمتد الأمر إلى تواجد أطراف أخرى متضررة كالأبناء، وهناك آثار أكثر امتدادا بالنسبة لعموم المجتمع”.
وأضاف الدكتور : “في جميع الأحوال فإن الأمر يتجاوز الأطراف المباشرة والقريبة كالحالات المعنية أو الوالدين والأزواج، حيث سيمتد الضرر للمجتمع ككل، وإن كان هناك مدخل لإصلاح وضعية هذه الفئة من النساء فهو مدخل مجتمعي يرتبط بالاشتغال على تغيير بنية الوعي وبنيات التفكير السوسيوثقافي المرتبطة سواء بالمرأة كإنسان له حقوق داخل المجتمع، أو بهذه الأمراض النفسية التي يمكن أن يتعرض لها أي شخص في أي مكان وأي وقت، وكذا القطع مع ازدواجية المعايير المرتبطة بالجنس، معيار خاص بالذكور الذين يتميزون بنوع من التسامح المطلق في حالة إصابتهم بالمرض النفسي، ومعيار خاص بالمرأة التي كلما أصيبت فهي مدانة مجتمعيا”.
وختم العيادي مداخلته بالتشديد على أن : “هناك حاجة ماسة لتغيير منظور الزواج الذي يجب أن يكون اختياريا بالنسبة للمرأة وليس واقعا ومصيرا حتميا وقدريا، وهذا المنظور يحتاج إلى شيء مهم من أجل تحقيقه، وهو التمكين الاقتصادي للنساء، حيث أنه إذا مكنا المرأة من أسباب استقلالها المادي، فأعتقد أنه يمكن أن تستغني عن الزواج، ويمكن أن تولي عناية خاصة لصحتها النفسية وأن تعالج بدون الحاجة للرجل أو الزوج”.
إعداد: خالد أفرياض