مع اقتراب كل استحقاق انتخابي، تطفو على السطح حركية غير طبيعية، ورواج كثيف ومكثف في سوق السياسة. تكرار هذا الرواج كلما وقفنا عند عتبة أبواب الانتخابات، يجعلنا نشبه الساحة السياسية بالرواج الذي تعرفه أسواق المواسم والمناسبات الاجتماعية. لو كان بمقدورنا الاحتفاظ بالرواج الذي تخلقه هذه المواسم على مدار السنة، لعرف الاقتصاد الوطني طفرة كبيرة وتطورا غير مسبوق. لكن الكل يعلم أن الأمر غير ممكن لأنه مرتبط بالقدرة الشرائية، وأن الزائر للمواسم، يكلف جيبه أكثر من طاقته لينعم بلحظة سعادة يتقاسمها مع أسرته الصغيرة ومع أحبابه وأصدقائه. بنفس المنطق نقول، لو كانت الحركية التي تشهدها الأحزاب السياسية عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية مستمرة على طول السنة، وتعرف نفس الوتيرة طيلة الولاية الانتدابية، لكان الأمل كبيرا في أن تعرف أسواقنا نفس رواج أسواق المواسم لمدة أطول. فبأي حال عادت الاستعدادات لانتخابات 2021؟
مع اقتراب موعد الانتخابات القادمة، تتصاعد وتيرة عمل الأحزاب، وتكثر التصريحات، ويرتفع الاقبال على وسائل الإعلام. لكن ما نأسف له هو الاستمرار في الممارسات البعيدة عن روح الديمقراطية والأخلاق السياسية. ولعل أبشع هذه الممارسات الترحال السياسي. فنجد من ينتقل من حزب “زَيْد” الذي أصبح بقدرة قادر حزبا يحمل كل شرور الدنيا بعد أن قضى فيه المُنسحب سنوات طوال، ليلتحق بحزب “عَمْر” وما يصاحب هذا الالتحاق من مديح شبيه بمديح الحزب الأول خلال الاستحقاقات الماضية. وفي المقابل، يقوم البعض بالهجرة المضادة، فينتقل من حزب “عَمْر” ليلتحق بحزب “زَيْد”، وبنفس السلوك: سب وشتم في الحزب القديم، ومديح في الحزب الجديد. وحين نقرأ جوهر هذه التحولات، نجد أنها مرتبطة بالتزكيات. إنه سلوك “الكائنات الانتخابية” التي تسلطت على السياسة وعلى الأحزاب السياسية، فأصبح بمقدورها أن تفرض تفاهتها ورداءتها على الجميع. هذا وجه أول من وجه سياسة التفاهة.
الوجه الآخر من سياسة التفاهة، مرتبط بكل أسى وأسف، بسلوك بعض الأحزاب في حد ذاتها. فنجد في داخل هذه الأحزاب، حرب التزكيات التي تشتعل مع اقتراب كل استحقاق انتخابي. والمشكل قائم في ريع التزكيات الذي يسود معظم الأحزاب. وهنا لا بد لنا من التنويه بتجربة حزب العدالة والتنمية الذي يعتمد مساطر مضبوطة وواضحة بخصوص الترشيحات والتزكيات، يُقرها برلمان الحزب ويتفق عليها الجميع قبل خوض أي استحقاق انتخابي. لو سارت باقي الأحزاب على هذا النهج، لعرفت الساحة السياسية سُمُوا في الممارسة الحزبية، ولقَلَّصَة من نفوذ الكائنات الانتخابية التي أصبحت تفرض أجندتها على بعض الأحزاب وتُوسع رقعة التفاهة في ساحة السياسة. غياب مساطر واضحة ومضبوطة في عملية التزكيات، جعل كثيرا من الأحزاب تُهَمش أعضاء الحزب وتضع مناضليها في قارعة الطريق، لتقوم بتزكية الأعيان ومحترفي الانتخابات، علما أنهم لا تربطهم بالحزب أي علاقة ولا يعرفون حتى تاريخه وبالأحرى مواقفه وبرامجه.
على أساس هذه الأرضية يمكننا أن نقول إن الترحال الحزبي مرتبط من جهة بالأحزاب التي لا تتوفر على مساطر الترشيح مصادق عليها من برلمان الحزب كما هو شأن حزب العدالة والتنمية، فتقوم بتهميش أعضائها وتمنح التزكيات لأشخاص بعيدين عن الحزب. ومرتبط من جهة أخرى بمحترفي الانتخابات الذين يبحثون عن التزكية بكل الوسائل، وما خفي أعظم في هذا الباب، دون تمييز بين هذا الحزب وذاك، مادام البحث عن التزكية هو الهدف، ولتسقط البرامج والمبادئ وما جاورهما.
هذه الممارسات، وهي غيض من فيض، ترمي بالممارسة السياسية في عالم من التفاهة والرداءة، لا يجد فيها المناضل والمثقف وصاحب مشروع أو فكرة مكانته، بل يجد نفسه في عالم غريب عنه، لا يترك أمامه سوى خيار الانسحاب وسياسة الكرسي الفارغ. هذا ما يقع فيه الكثير من شرفاء البلد، وهو موقف خاطئ بكل المقاييس. فالكرسي الفارغ هو ما تبحث عنه الكائنات الانتخابية، وهو الواقع الذي تنتعش فيه، لأنها تعرف جيدا أن لا قدرة لها على المناظرة ومواجهة الصوت المناضل والإصلاحي. هذه الكائنات تحاول في البداية نهج أسلوب التفاهة والانحطاط السياسي لدفع الصوت الإصلاحي نحو الانسحاب، لأنه صوت لا يسمح لنفسه بالنزول إلى مستوى التفاهة التي تعتمدها الكائنات الانتخابية. هذا الانحطاط السلوكي قد يتجلى في الكلام الرديء، والخوض في أعراض الأشخاص، ونشر الاشاعات والأكاذيب، ليكون النقاش تافها وهو ميدان عمل تلك الكائنات. أما إذا ارتفع مستوى النقاش فهو ميدان المثقف وصاحب الفكر الإصلاحي، لأنه مجال مناقشة البرامج ومقارعة الأفكار والإبداع في الاقتراحات والحلول. لكن صمود أصحاب المشروع والفكر الإصلاحي، من شأنه أن يفضح تلك الكائنات، والتواجد المستميت في الساحة الانتخابية من شأنه أن يُقلص إلى أبعد مدى، فعل السفاهة وممارسة التفاهة في حقل يُحدد المعيش اليومي للمواطن، ويُحدد مستقبل الوطن بل قد يرهن مشروعه التنموي.
فلنجعل من الانتخابات القادمة، محطة للعودة المكثفة لكل مؤمن بالممارسة السياسة الجادة والقائمة على أساس المبادئ، وذلك لتقليص نفوذ الكائنات الانتخابية والقطع مع سياسة التفاهة التي ينهجها محترفو الانتخابات، والابتعاد كذلك عن خيار الكرسي الفارغ الذي ينهجه المثقف وصاحب رأي وفكرة، الباحث عن ممارسة السياسة بالمبادئ والأخلاق.
سعيد الغماز