الأستاذ الحسين الفرواح يدلي برأيه حول التوجهات الجديدة للصناعة المغربية .
يدور الحديث مؤخرا بين الاقتصاديين وحتى السياسيين بالمغرب و فرنسا و امريكا عن ضرورة تأميم (nationalisation) و اعادة التوطين ( relocalisation ) الصناعات الوطنية بالبلد الأم. فمثلا في فرنسا تعقد اجتماعات مكثفة لتأميم واعادة توطين الشركات الفرنسية المنتشرة بمعظم دول العالم؛ وفي أمريكا ما فتئ الرئيس ترامب ينادي بذلك بعد صعود التوجه القومي/الوطني في زمن كورونا. بالمغرب نفس الأمر ، بحيث تحدث وزير الصناعة و التجارة المغربي مؤخرا عن إتجاه المغرب الى تبني استراتيجية صناعية/تجارية جديدة تسمى ” إحلال/ استبدال الواردات” industrialisation par substitution aux importations و التي تقوم بالأساس على مفهموم الحمائية؛ بدواعي الحفاظ على احتياط العملة الصعبة و على مناصب الشغل و تشيجع المنتوج الوطني الخ.
فاستراتجية “التصنيع لاحلال الواردات” هي سياسة صناعية /تجارية تؤيد أن تحل المنتجات_المحلية محل الواردات الأجنبية كما يدل إسمها على ذلك، تفترض هذه الاستراتحية أن الدولة يجب أن تحاول خفض اعتمادها على الخارج من خلال تصنيع المنتجات المطلوبة محليًا. هذه الاستراتجية نوع من انواع السياسات الاقتصاديات التنموية في القرن العشرين مستوحاة من مجموعة من النظريات منها على سبيل الذكر لا الحصر Friedrich List و Alexander Hamilton.
و من أهم سلبيات هذه السياسة عدم توفر المواد الاولية محليا، مما يعقد أمر نجاحها، إضافة الى محدودية الأسواق المحلية، وضعف التمويل و غياب الكفاءات الضرورية…
هنا يتجلى الصراع الأبدي بين انصار النظرية الكنزية و النظرية الليبرالية. في هذا الإطار، و بعد ظهور مجموعة من الاختلالات بسبب جائحة كورونا المستجد يعزوها الكثيرون إلى العولمة الليبرالية المتوحشة التي تدافع عن مقولة ” دعه يعمل، دعه يمر”، الكل ينادي بتاميم الشركات الوطنية وإعادة توطينها( حتى في معظم الدول الغربية) ناسين أو متناسين أن التأميم و اعادة التوطين ليس دائما الحل الأمثل بالنظر الى البحث عن أسواق أقل تكلفة و بالتالي أكثر تنافسية وجاذبية.
هذا التوجه الجديد للسياسة الصناعية المغربية بعد أن وضع المغرب منذ عقدين مجموعة من المخططات في الفلاحة و الصناعة و السياحة و الصيد البحري و الاقتصاد الاجتماعي والتضامني…. حققت نتائج ملموسة وجيدة. على سبيل المثال لا الحصر، المغرب لديه اكتفاء ذاتي 100% في اللحوم والخضر والفواكه، عكس فرنسا، البلد الأوربي الأول فلاحيا، و الذي لا يتجاوز 50% في هذه المنتوجات.
فبعد “مخطط الانبثاق الصناعي” ثم “المخطط الوطني للتسريع الصناعي” المبني أساسا على “المهن العالمية للمغرب” كصناعة السيارات وصناعة أجزاء الطائرات و الصناعات الغذائية و النسيج و الافشورنغ و صناعة الالكتونيك مضمونها استراتيجية مخالفة تدعى ” التصنيع من أجل تشجيع الصادرات ” ؛ تلوح في الأفق بوادر تبني استراتجية جديدة حسب أقوال الوزير المسؤول عن القطاع.
هذه الإستراتيجية التي كان المغرب قد تبناها و كذلك تركيا وكوريا الجنوبية ودول أخرى بينت محدوديتها فالسبعينات والثمانينات.
لنفترض ان كل دولة تراجعت الى الوراء و طبقت هذه الاستراتجية؛ سيطرح إشكال كبير على مستوى “التقسيم الدولي للعمل” و التخصص، فكل دولة ستنتج بغض النظر عن عن توفرها عن الامتياز أم لا مما سيربك التجارة العالمية قد تؤدي الى حدوث نزاعات دولية جديدة.
فمثلا لنأخذ إنتاج القمح، فالمغرب ليس في صالحه تحقيق اكتفاء ذاتي في هذا المنتوج لان مردوديته أقل مقارنة ببعض المنتوجات الأخرى كالخضروات و الفواكه. فالحبوب في المغرب تستحود على 59 في المئة من المساحة الصالحة للزراعة التي تبلغ 8,7 مليون هكتار بينما لا تساهم في الناتج الداخلي الخام الفلاحي إلا ب 19 في المئة؛ عكس الخضروات التي لا تستغل إلا 3 في المئة من هذه المساحة و لكن تساهم ب 13 % في الثروة الفلاحية الوطنية.
فمنذ الاستقلال، اتبع المغرب استراتجية ” احلال الواردات” و كانت لها سلبيات عدة من أهمها اختلال في الأسواق وضعف القدرة التنافسية للشركات المغربية، إرتفاع كلفة الانتاج و اختلال في ميزان المدفوعات في نهاية السبعينات و الثمانينيات .
أكيد أن مغرب الثمانينيات ليس هو مغرب 2020 ، و أكيد ايضا ان أزمة كوفيد 19 قلبت الموازن وبدأ الحديث عن تحقيق الامن الغذائي و عودة الدولة الاجتماعية الى أدوارها التقليدية؛ و صحي كذلك أن يكون هذا النقاش حول مغرب ما بعد الجائحة، لكن هذا لن ينسينا دروس وعبر التجارب الماضية الداخلية و الخارجية.
جميل أن نفكر في الاكتفاء الذاتي و تشجيع الصناعات المحلية و دعم علامة “صنع بالمغرب”، ولكن الأجمل من ذلك تقدير ما سنربحه و ما سنخسره باعتمادنا هذه الاستراتجية أو تلك بعيدا عن الحماس الزائد أكثر من اللزوم.
ذ. الحسين الفرواح
مبرز في الاقتصاد و التدبير
و رئيس المركز الإفريقي للابحاث و الدراسات في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني CAREESS