أقرت إسبانيا في موقف جديد وصريح أنها مع الاستقرار والوحدة الترابية للمغرب. هذا ما جاء في رسالة رئيس الحكومة الإسبانية السيد بيدرو سانشيز حيث نقرأ في آخر فقرة من بلاغ الديوان الملكي ” أنه سيتم اتخاذ هذه الخطوات من أجل ضمان الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين”. كما أن الرسالة الإسبانية تَعتبر أن “المبادرة المغربية للحكم الذاتي بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف” المتعلق بالصحراء المغربية. إنه وضوح ما بعده وضوح في دعم المبادرة المغربية ووحدة ترابه، وهو في ذات الوقت تغيير جذري في الموقف الإسباني. ولقد ذهبت العديد من التحليلات والقراءات إلى تثمين هذا الموقف الجديد لإسبانيا واعتباره مساهمة جدية في وضع حد لصراع دام طويلا وآن الوقت لإيجاد حل له بعد أكثر من أربعة عقود. لكن السؤال الأهم والجوهري هو لماذا هذا التحول 180 درجة في الموقف الإسباني وما أسبابه؟
هذا ما سنحاول تحليله في هذا المقال.
ذهبت تحليلات الكثيرين إلى أن سبب الموقف الجديد للمملكة الإيبيرية متعلق أساسا بإيقاف تدفق المهاجرين من دول جنوب الصحراء الذي يعاني منه المغرب كما تعاني منه إسبانيا. وإذا كان هذا السبب قد تضمنته رسالة رئيس الحكومة الإسبانية للعاهل المغربي التي جدد فيها التأكيد على “عزمه العمل جميعا من أجل التصدي للتحديات المشتركة، ولاسيما التعاون من أجل تدبير تدفقات المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، والعمل على الدوام في إطار روح من التعاون الكامل” كما جاء في بلاغ الديوان الملكي، فإن هذا السبب لا يمكن أن نعتبره سببا كافيا لتغيير الموقف الإسباني من قضية الصحراء المغربية، كما أنه ليس أمرا جديدا يمكنه خلق مثل هذا الحدث الكبير.
الأكيد أن الموقف الإسباني الجديد القاضي باحترام الوحدة الترابية للمملكة المغربية، وتأكيد رئيس حكومتها أنه “يعترف بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب”، يندرج في إطار الدينامية الدولية الجديدة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الأخيرة عقدت العزم على إيجاد حل لنزاع طال أمده، وأصبح من أولويات المنتظم الدولي لتجنيب المنطقة وضعية عدم الاستقرار التي قد تخلق مشاكل يصعب التحكم فيها. وذلك بوجود ميليشيات مسلحة في منطقة ينشط فيها الإرهاب، والتهريب، وكل ما هو خارج عن القانون بما فيه عصابات تهريب البشر لأوروبا. والموقف الإسباني الجديد يندرج في إطار قراءة متأنية للتحولات التي تشهدها المنطقة بدخول لاعبين جدد، كما أنه خطوة استباقية لضمان موقع إسباني متميز في منطقة تشهد تحولات وتوجه جديد للمنتظم الدولي. هذا التوجه الجديد جعل الإسبان يدركون جيدا أن دعم البوليزاريو في إقامة دولة غير قابلة للحياة خيار مستحيل وستتضرر منه إسبانيا قبل أي دولة أخرى.
المملكة الإيبيرية أمضت وقتا طويلا في اللعب على الحبلين لتستفيد من كلا البلدين المتصارعين: الجزائر والمغرب. وبعد التحولات الأخيرة في المنطقة أيقنت إسبانيا علم اليقين أن استقرار المنطقة ودعم الوحدة الترابية لمملكةٍ أكدت أنها قوة إقليمية بعد خلافاتها مع ألمانيا وإسبانيا وقبلهما فرنسا، وكيف عالجت الأمور بندية غير مسبوقة، هو الخيار الاستراتيجي المناسب لمصالح المملكة الإسبانية وضمان بقائها فيما ستشهده المنطقة من تحولات في المستقبل القريب.
لقد انتبهت إسبانيا إلى الدينامية الجديدة التي تعرفها قضية الصحراء المغربية، واستوعبت جيدا أن مليشيات البوليزاريو أصبحت عبئا ثقيلا على الجزائر لا تعرف كيف تتخلص منه، فخطَتْ خطوة استباقية ستمكنها من إحراز أكبر عائد اقتصادي وسياسي وأمني من البلدين المتصارعين. فالمغرب أكيد أنه سيرحب بهذا الموقف الجديد الذي يسير في مصلحة وحدته الترابية، وطَيِّ صفحة طال أمدها للتفرغ الكامل لبرامجه التنموية والاقتصادية. أما الجزائر فإسبانيا تعرف جيدا أنها لن تستطيع عمل أي شيء قد يُضر بمصالحها لسبب بسيط هو أن إسبانيا عضو في الاتحاد الأوروبي، وجميع مصالح الجزائر هي مع هذا الاتحاد. وهذا سيجعلها مكتوفة الأيدي خاصة في ظل واقع يعرف فيه حليفها الاستراتيجي روسيا الاتحادية ضغوطات دولية نتيجة هجومه على أوكرانيا. وبالتالي فروسيا في وضعية لا تساعدها على مد يد العون للجزائر بل هي في حاجة لمن يدعمها ويقوي موقعها الدولي. زد على ذلك أن انسحاب إسبانيا من دعم جبهة البوليزاريو، سيجعل الجزائر تتحمل عبئا يفوق طاقتها ويُضعف بالتالي موقعها الدولي.
لقد بدأ المنتظم الدولي في تغيير تصوره لحل قضية الصحراء المغربية منذ اعتراف أمريكا-ترامب بمغربية الصحراء واعتمادها الرسمي لخريطة المملكة المغربية كاملة بصحرائه. هذا التوجه أكدته حكومة بايدن مؤخرا بموافقة الكونغريس الأمريكي على ميزانية التعاون المشترك مع المغرب بإدراج الأقاليم الجنوبية في هذه الميزانية وعدم فصلها عن باقي الأقاليم المغربية. وهذا المسار هو الذي اتبعه الاتحاد الأوروبي حين أصبحت اتفاقياته الاقتصادية مع المغرب لا تميز بين أقاليم الجنوب عن باقي التراب الوطني للمملكة المغربية. زد على ذلك التقارب الأخير بين المغرب وألمانيا بعد الأزمة التي عرفتها العلاقة الديبلوماسية بين البلدين. وفي الأخير نشير إلى الدخول القوي لبريطانيا وإعلانها مشاريع كبرى مع المملكة المغربية، بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي ونهج دبلوماسية جديدة خاصة بها ترقب عن كثب ما يقع في صحراء بلد نسج خيوطا اقتصادية قوية مع عمقه الإفريقي.
انطلاقا من هذا كله، يمكننا أن نُقر بأن تغيير الموقف الإسباني هو قرار ذكي واستباقي لما سيأتي في قادم الأيام من خطوات دولية تسير في اتجاه الحكم الذاتي للصحراء في ظل السيادة الوطنية للمملكة المغربية. فإسبانيا تعي جيدا أن دخول الاستثمارات الأمريكية إلى المنطقة سيحرمها من امتيازات مِنطقة كانت من مستعمراتها وسيُبعدُ نسيجها الاقتصادي عن المشاريع الكبرى التي ستشهدها المنطقة، وهو أمر إن حدث ستخسر فيه إسبانيا الكثير والكثر. فعلى سبيل المثال ميناء طنجة المتوسط الذي صُنف مؤخرا ثالث ميناء في فاعلية خِدمة الحاويات على الصعيد العالمي متجاوزا كل الموانئ الإسبانية، تسبب لها في خسارة كبيرة وفقدت موانئها قدرا كبيرا من السوق الدولية. وعندما يتم إنجاز ميناء الداخلة في الصحراء المغربية ستكون وضعيتها أعقد وأصعب في ظل تواجد الاستثمار الأمريكي وربما البريطاني كذلك. لذلك فالخطوة الاستباقية في دعم الوحدة الترابية للمملكة المغربية سيجعلها تنتقل من أكبر الخاسرين إلى أكبر الرابحين.
الموقف الجديد لإسبانيا ليس تحولا 180 درجة فقط، وإنما هو خطوة استباقية وقرار استراتيجي للانتقال من اللاعب الخاسر في دعم البوليزاريو إلى موقع الرابح اقتصاديا وأمنيا في دعم الوحدة الترابية للمملكة المغربية.
سعيد الغماز