في الوقت الذي عمل فيه المغرب أكثر من مرة على تقديم يد المصالحة للشقيقة الجزائر، وفي الوقت الذي طرحت فيه المملكة المغربية أكثر من مبادرة لخلق جسور التفاهم والتعاون بين البلدين، نجد النظام الجزائري لم يطرح أي مبادرة لطي صفحة الخلاف بين البلدين، والشروع في صفحة جديدة قد تفتح آفاق التعاون في إطار اتحاد المغرب العربي. بل عكس هذا التوجه التصالحي، نجد حكام الجزائر يبذلون كل طاقتهم في تأجيج الصراع مع المغرب، واتخاذ قرارات غير مسبوقة ولم تشهدها علاقات الدول الجارة على الصعيد العالمي، والمتمثلة في إغلاق الحدود البرية وحتى الجوية وقطع العلاقات الديبلوماسية. يحدث هذا التأزيم الغريب لعلاقة الجزائر مع جارتها المملكة المغربية، في ظل انفتاح مفاجئ لفرنسا اتجاه الجزائر.
لو كان هذا الانفتاح الفرنسي اتجاه الجزائر وقع في ظل علاقات طبيعية مع المغرب، لاعتبرنا الأمر يدخل في سيادة الدول وحقها في توطيد علاقاتها مع أي دولة لها معها مصالح…لكن أن تنفتح فرنسا بشكل مفاجئ على الجزائر وتبحث في نفس الوقت على ضرب المصالح المغربية وخلق صراعات مع شريك استراتيجي، فهذا الأمر يجعلنا نطرح سؤال الدور الجزائري في ضرب المصالح المغربية خاصة في إفريقيا، بمباركة فرنسية.
منذ بداية الألفية الثالثة، شرعت المملكة المغربية في تنفيذ نموذج تنموي جديد متجه نحو عمقها الإفريقي وفق استراتيجية من شقين: أولا تعاون جنوب-جنوب، وثانيا مشاريع قائمة على أساس منطق رابح-رابح. هذه الاستراتيجية الجديدة لقيت تجاوبا افريقيا كبيرا، لأنها قائمة على أساس التعاون من أجل بناء الغد وبعيدة عن المنطق الاستعماري الذي خلفته فرنسا والقائم على أساس الاستغلال لثروات بلدان ناشئة لصالح بلد أوروبي متقدم. هذه الاستراتيجية الجديدة في العلاقات الاقتصادية ساعدت المغرب على توسيع استثماراته في معظم الدول الإفريقية، مما أكسبه دور الدولة الصاعدة في إفريقيا والمنافسة للاستثمارات الفرنسية. لقد أصبح المغرب فاعلا رئيسيا في كثير من الدول الإفريقية بما فيها تلك الناطقة بالإنجليزية، وفي مجالات مختلفة أصبحت فيها الشركات المغربية رائدة فيها. نذكر على سبيل المثال قطاعات الأبناك والاتصالات والتأمين والأسمدة والفلاحة والبناء والإسمنت ومشاريع قادمة في مجال الطاقة المتجددة خاصة الشمسية والريحية إلى جانب مشروع بطاريات السيارات الكهربائية وأجهزة الشحن المرتبطة بها … وتُوجت مؤخرا هذه الاستراتيجية الناجحة بتشغيل معمل كبير للأسمدة في نيجيريا بأحدث التقنيات، وهو ما سيمكن العديد من الدول الافريقية المجاورة من تعزيز أمنها الغذائي، علما أن المصنع سيتكلف بتكوين المزارعين للزيادة في الإنتاجية. وينضاف إلى هذا المصنع، معملين اثنين في طور الإنجاز، إضافة إلى المشروع الواعد لبناء أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب الذي ستستفيد منه إلى جانب أوروبا، 13 عشر دولة في غرب إفريقيا يمر الأنبوب عبر أراضيها. ورغم المنافسة الجزائرية التي تريد أن يكون هذا الأنبوب بينها وبين نيجيريا، إلا أن المشروع المغربي يسير على قدم وساق ويتقدم بخطى محددة وموثوقة، وتم التوقيع مؤخرا على العديد من الاتفاقيات بين الدول المشتركة في هذا المشروع. ولولا الاستثمارات الكبيرة التي قام بها المغرب في إفريقيا على مدى عقدين، وكسب ثقة العديد من الدول الإفريقية، لما كان بإمكانه اقتراح مشروع طاقي من هذا الحجم، واستجابة الدول المعنية بكل طاقتها.
لا شك أن فرنسا، البلد المستعمر لمعظم القارة الافريقية، تنظر بعين غير راضية لهذا التواجد الاستثماري للمملكة المغربية في إفريقيا. فقد اعتادت فرنسا أن تكون اللاعب الوحيد والأوحد في القارة السمراء، وأنها لن تسمح لأي دولة أخرى بمزاحمتها في سوق تسيطر عليه ليس اقتصاديا فحسب، بل سياسيا كذلك بتدخلها المكشوف في كثير من الانقلابات العسكرية التي تعاني منها القارة الإفريقية، وتتسبب في حالة من عدم الاستقرار الذي يصب في صالح فرنسا. وإذا كانت هذه المنافسة من طرف مستعمرة سابقة لفرنسا في شمال إفريقيا، فإن الأمر يكون غير مقبول في نظر امبراطورية نابوليون.
منذ سنين وفرنسا تبحث عن خطة تجعل المملكة المغربية تتخلى عن مزاحمتها في قارة تعتبرها ملعبا لها لوحدها، في حين يتشبث المغرب بعلاقاته الإفريقية ويعتبر نفسه بلدا إفريقيا وحضارة بعمق إفريقي، وبالتالي فهو الأولى بهذه الاستثمارات في البلدان الإفريقية، ولا حق لأحد في انتزاع هذا التوجه المغربي نحو عمقه الإفريقي.
لم تستطع فرنسا إيقاف هذه الاستراتيجية المشروعة لبلد يريد أن يكون له موطئ قدم في قارة ينتمي إليها. بل على العكس، أمام إسرار المملكة المغربية على توجهها نحو عمقها الإفريقي، ازدادت مكانة المغرب الاقتصادية في القارة السمراء، وتمكنت استثماراته من تحقيق دينامية مكنتها من التطور والتمدد، يستفيد المغرب وتستفيد معه الدول الإفريقية. الأمر الذي جعل الجمهورية الفرنسية تشرع في السرعة القصوى لإيقاف تطور الاستثمارات المغربية في قارة كانت ذات يوم تحت وطأت الاستعمار الفرنسي.
كانت فرنسا لوقت قريب شريكا استراتيجيا للمملكة المغربية، ومن أكبر الداعمين له في وحدته الترابية. والآن أصبحت تستغل هذا الصراع حول الصحراء للضغط على المغرب لثنيه عن حقه الطبيعي في الاستثمار في القارة الافريقية وتنمية قدراته الاقتصادية. ولم تكتف فرنسا بهذه الضغوط، بل لجأت إلى توضيف الورقة الجزائرية من أجل إضعاف المغرب ومحاولة إفشال مخططه التنموي. ففي الوقت الذي اتجهت فيه الكثير من الدول الأوروبية لتعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة، بتدعيم مقرح الحكم الذاتي الذي اقترحته المملكة المغربية كألمانيا وهولندا وإسبانيا ومؤخرا بلجيكا، نجد فرنسا تغرد خارج السرب الأوروبي وتتجه في الاتجاه المعاكس… كيف نفسر تشكيك الرئيس الفرنسي في وجود أمة جزائرية خلال حملته الانتخابية لاستمالة أصوات اليمين المتطرف…ثم بعد انتخابه يقوم بزيارة للجزائر دون اعتذار للشعب الجزائري أو على الأقل تقديم توضيح في الموضوع. وبعد زيارته، تقوم رئيسة الوزراء رفقة نصف حكومتها بزيارة عمل لم نسمع فيها اتفاقيات أو مشاريع استثمارية، وكل ما رجح حول الزيارة هو تعهد رئيسة الحكومة الفرنسية للجزائر بأن لا تغير فرنسا موقفها من الوحدة الترابية لشريكها الاستراتيجي المملكة المغربية على غرار ما قامت به المملكة الإسبانية.
من الخطأ اعتبار التقارب الفرنسي مع الجزائر هو من أجل الغاز في ظل الحرب في أوكرانيا. فإذا كان هذا الطرح صحيحا، فلماذا هذا التقارب مع الجزائر والقيام في نفس الوقت بحرب غير معلنة ضد المغرب؟ وما خلفيات سحب السفيرة الفرنسية بشكل صامت بعد تعيينها في منصب أوروبي دون تعويضها؟ وما مصلحة فرنسا في العمل على معاكسة الوحدة الترابية للمغرب؟ وكيف تُغير اسبانيا موقفها بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، في وقت تغير فرنسا موقفها في الاتجاه المعاكس؟
كلها أسئلة تصب في كون فرنسا تستغل الورقة الجزائرية من أجل محاربة التواجد الاقتصادي للمغرب في القارة الإفريقية. فما لم تستطع الشركات الفرنسية القيام به في تلجيم تطور الاستثمارات المغربية في إفريقيا، تقوم بالنيابة عنها السلطة السياسية في فرنسا باستعمال كل الوسائل الخبيثة، بما فيها تأجيج الصراع بين الجارين المغرب والجزائر عوض العمل على تقارب الدولتين واستتباب الأمن والاستقرار في المنطقة.
يجب على النظام في الجزائر أن يكون واعيا باللعبة الفرنسية، وأن مساعدته لفرنسا في محاصرة الاستثمارات المغربية في عمقه الافريقي، هي خدمة لا تضر المغرب فحسب، بل تضر الجزائر كذلك. فاليوم دور المملكة المغربية وغدا دور الجمهورية الجزائرية.