العنف الرمزي هو من ابرز واخطر المفاهيم التي اكتشفها السوسيولوجي الفرنسي (بيير بورديو) بل كان من اهم الادوات السوسيولوجية الرئيسية التي اختبرت اكثر القضايا الفكرية اهمية وخطورة في العصر الحديث وبفضل استخدام هذا المفهوم في الحقول الاجتماعية والثقافية والسياسية تحقق الوصول الى اعمق مجاهل الحياة الانسانية وتم الكشف العلمي عن مكامن الجوهر والمظهر الاجتماعي والفكري والسياسي قصد الوصول الى ازالة ما يكتنف هذه العوالم من الغموض والالتباس في قضايا كبرى مثل الهوية والطبقة واعادة الانتاج والصراع الطبقي وسلطة الدولة.
وداب (بيير بورديو) على استخدام مفهوم العنف الرمزي في اغلب كتاباته السوسيولوجية والتربوية وفي اعماله الادبية ووظفه في استكشافاته وابحاثه لإظهار الهيمنة الذكورية والسيطرة الايديولوجية ومعاودة الانتاج.
ويعرف (بيير بورديو) العنف الرمزي بانه (عنف ناعم هادئ لكنه خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في ان واحد) ويزيد توضيحا للمفهوم انه (عنف هادئ لا مرئي ولا محسوس حتى بالنسبة الى ضحاياه) كما يحاول ان يتلمس هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية واخلاقية وثقافية تعتمد الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة مثل اللغة والصورة والعلامات والمعاني.
وارتباطا بهذا التعريف يمكن القول ان العنف الرمزي هو نوع من العنف الثقافي الذي يؤدي وظائف اجتماعية كبرى يمكن تلمسه في وضعية الهيمنة التي يمارسها اصحاب النفود على اتباعهم بصورة مقنعة وخادعة اذ يقومون بفرض مرجعياتهم الاخلاقية والفكرية على الاخرين من اتباعهم كما يولدون لديهم احساسا عميقا بالدونية والشعور بالنقص.
العنف والعنف الرمزي قد يكون جوهر العلاقة بين الانسان والمؤسسة الاجتماعية والسياسية والثقافية او بين الانسان واي انسان اخر لان غاية الانسان هي الشعور بالقوة وممارستها على الغير غير ان هناك عنفا اخر يتسلل الى شعور ولاشعور الانسان بشكل خفي هادئ وناعم كما هو ظاهر وجلي في نظام اللغة و اسلوب الكتابة وهدفها.
- العنف الذكوري وقمع اناث المفردات
تعتبر اللغة الوعاء الحاوي للثقافة ووسيلة التفكير الذي يحدد رؤية العالم ونواميسه لذلك شكلت معرفتها اهم ركيزة لمعرفة الهوية والذات والشخصية. واللغة في عرف اللغويين اداة اتصال بين افراد المجتمع تتأثر بنظامه ونمط حياة افراده وتعبر عنه وتعكسه تماما كما ينعكس عليها فتتغير بتغير طبيعته وتنمو وتتطور بتطور انسانه. انها عالم رمزي مركب من مفردات وعبارات ومدلولات وافكار وتراث واساطير الى غير ذلك من الوسائل التعبيرية التي تصور المجتمع وترسمه بمكوناتها ودلالاتها.
وبما ان مجتمعنا الذي نعيش ضمن قوانينه ومفاهيمه السائدة هو مجتمع ذكوري فان اللغة المتداولة لدينا تأخذ صفة الذكورة ولان الذكورة في مثل هذا المجتمع البطريكي يقمع اناثه فبطبيعة الحال ستستبد المفردات الذكورية على الكلمات والمفردات الانثوية وستقمعها وليس ادل على ذلك من ان التعميم في لغتنا غالبا ما يأخذ صفة التذكير(ذكر) وتستثني صفة التأنيث(انثى) وبالتالي تتراجع عدديا وكميا مفردات التأنيث في النصوص وفي التعابير الكتابية والشفوية.
على سبيل المثال لا الحصر حين نتفحص عناوين الكتب والمؤلفات والسير وخصوصا كتب وسير الادباء والشعراء والفلاسفة غالبا ما يأتينا العنوان جامعا ومعمما لأسماء الكتاب والكاتبات والشعراء والشاعرات والقصاصين والقصاصات والروائيين والروائيات بصيغة الجمع المذكر مثل (تراجم الادباء والكتاب والشعراء القدامى والمعاصرين..) والعنوان نجده دائما يقتصر على التذكير( المذكر) للدلالة على الاستحواذ والتعميم والشمولية عوض اضافة مفردات التأنيث (تراجم الادباء والاديبات – الشعراء والشاعرات – الروائيون والروائيات ..) وكأن الرجل هو الذي يصنع التاريخ وينتجه ويدونه وبالتالي فانه هو الذي يتحكم في اللغة وباللغة ويحكم على تطورها. وفي مثال اخر- عندما استدخلنا عبارة (الحاسوب الالي) الى لغتنا العربية في ظل مجتمع (اموسي) فقد ترجمت الكلمة الى (Computer) اي الى (الحاسوبة الالية) لان المرأة في ظل مثل هذا المجتمع تكون هي الاقوى والاكثر ذكاء وقدرة وبالتالي لابد وان تأخذ تصورنا المجسم والمحسوس لشيء ذكي وهي صفة للأنوثة لا الذكورة ( سامية عطعوط – ذكر يقمع اناث المفردات)
وقدمت الكاتبة سامية عطعوط جملة من المفردات التي تبين هيمنة الذكورة اللغوية على مؤنثها من قبيل: لفظة (النظام) وردت مذكرا اما كلمة (الفوضى) فوردت مؤنثة – وكلمتا (العقل والمطر) وردتا مذكران اما لفظة (العاطفة ) فاتت مؤنثة – وكلمة (السلام ) جاءت مذكرا اما (الحرب) فجاءت مؤنثه – و(الجسد) ورد مذكرا في حين ان معظم اطراف الجسد التابعة له وردت مؤنثة (الساق – اليد – القدم – الرجل ) ان السائد هو التذكير(الذكورة) بسبب ذكورية السلطة في المجتمع اما التأنيث فهي الاستثناء لا القاعدة.
هذا التقابل بين الذكورة والانوثة يبين ان العنف الرمزي كما يراه (بيير بورديو) يتضمن كل انواع الهيمنة الاجتماعية والثقافية واللغوية وهي هيمنة قد لا يتم ادراكها بصورة مباشرة بمعنى انها غير مرئية وغير ملحوظة بحيث يبدو وكأنها جزء من طبيعة الاشياء المستقرة .
- الكتابة كاداة عنف تجاه المجتمع والقارئ
كل كتابة هي في المجمل عمل عنف رمزي لان الكتابة تهدف بشكل ارادي او لا ارادي تأكيد الذات ذات المبدع او ذات الكاتب وفرضها على القارئ حقيقيا كان ام افتراضيا وان الكاتب حين يكتب انما يمارس العنف او الرفض ضد وضعه الاجتماعي والطبقي والاعتباري او ضد مجتمعه او قيم مؤسساته وضد سلطة الاخرين. والتعبير الادبي او حتى التعبير العفوي هو دائما معارض للحالة وللوضع وللفكرة القائمة لأجل هدم ما هو قائم وبناء ما هو مؤمل على انقاضه والكتابة دوما هي ممارسة العنف الرمزي هدما او تجريحا او معارضة او ازاحة.
هذا الراي ينطبق على كل انواع الكتابة الادبية وغير الادبية.. انها عنف ضد القارئ والكاتب غالبا ما يريد اشراك القارئ في عنفه بل يسعى الى اغتصاب عاطفة القارئ وعند الاقتضاء حتى ادرار دموعه.
ولنأخذ مثالا في تاريخ الكتابة القديمة وخصوصا الإلياذة والاوديسة فكلاهما عمل عنف فالأولى (الإلياذة) تؤكد على العنف وتمجيده والتغني بالقوة والبطولة والتضحية وما يشابه ذلك من انتصار على الاخر او اغتصابه او قتله او محوه من الوجود.. وهذه “القيم البطولية” كلها ضد الطبيعة البشرية لان هذه الاخيرة هي اصلا ضد التبرع بالحياة ولا تتبرع بها الا مكرهة فوجب نفخها بشبه اسطورة لتفعل في المخيلات وهذا اقصى العنف.
اما الاوديسة فهي تكملة الإلياذة ظاهريا في شخص (عوليس) وهي ليست سوى محاولة لهدم ما في الإلياذة بإحلال العقل والذكاء والحيلة والاستفادة من مباهج الحياة دون الوقوع بفريستها محل البطولة المجانية والتضحية المجانية والعنف الممجد للعنف والدفع الى تزيين جمال الفن والعوالم الممكنة التي تدعو الناس الى اعمارها. ان الاوديسة تبدو انها مهمة جدا لان الانتصار على العنف فيها لم يكن بإلغائه بل بممارسته ولكن عند الاقتضاء وفي سبيل هدمه كعنف بعنف اقوى بالطبع مما يدل ان كل عمل يصدر عن انسان هو عمل عنف !!! (يوسف حبشي الاشقر)
وفي الادب والفنون التعبيرية نجد العنف الرمزي يتغلغل ويتسلل من خلال التعبير اللغوي والرمزي الذي لا يحركه الا الرفض: رفض الواقع الكائن والحال البائس والادب الساخر مثلا هو من اشد انواع الادب عنفا بل واكثر الانواع الادبية ايلاما لأنه يزرع الشك ويخلق الحيرة وهكذا كانت فلسفة وفكر وابداع كتاب امثال سارتر وشكسبير ودستويفسكي وبلزاك وكامو و محمد شكري.. وغيرهم تزرع الشك والخوف والقلق والجنون والموت..
العنف والعنف الرمزي هو كل حركة ضدية او هو كل حركة ضد عنف اخر ومنه العنف بالتعبير والعنف بالكلمة والعنف بالصورة. وتبدو اهمية الكلمة في الكتابة وتفوق على اي وسيلة اخرى من وسائل التعبير لأنها وحدها تستطيع ان تشحن بالعنف الواضح والمفهوم وتتناقل بفعالية وسهولة وبقدر ما يكون هدم العالم واحلال عالم غيره شاملا بقدر ما يكون العنف كاملا.
ذ. محمد بادرة